غدا أجيئ... وفي يدي الشمعة الحمراء
هي أجواء من شعر الشاعر الكبير هادي دانيال الذي يحمل على اكتافه هموم رحلة طويلة مع الشعر توجها بأزيد من عشرين مجموعة شعرية ورحلة تقلبه في مناصب ثقافية في بيروت ومع منظمة التحرير الفلسطينية، وأنا أفكر في كيف اقدمه للقارئ وجدت أن افضل تقديم أن يقدم نفسه بشعره كمدخل للذي قاله في إجاباته عن اسئلتنا، اجابات فيها الكثير من البوح والذكريات واشياء أخرى.
- ‘’الشعب’’: لنبدأ من الطفولة، هل تذكر كيف كانت طفولتك؟ هل كنت طفلا شقيا أم عاقلا ظريفا؟
هادي دانيال: الأطياف التي لم تغادر الذاكرة بعد ما يردده الأهل والأقارب عن تلك الفترة من عمري التي قضيتها بين ‘’كفرية’’ القرية الجبلية الغابية المطلة على بحر اللاذقية التي كان يظهر لي خيطا ازرق عندما تكون الشمس بصدد الغروب، و’’القابون’’ إحدى ضواحي ريف دمشق التي كانت بيوتها محاطة ببساتين المشمش وحقول ‘’الفصة’’ خاصة، تشير إلى أنني كنت طفلا هادئا ودودا ومحبوبا في سلوكه الظاهر، لكنني كنت أطفو وأطوف على أمواج أحلام صاخبة.
- كيف كانت تصرفات هادي دانيال مع رفاقه ومعلميه في المدرسة؟
كنت متفوقا في المرحلة الابتدائية محاطا بأصدقاء قليلين، واطرب لامتداح المعلمين، لكن في المرحلة الاعدادية بدأت اضجر من مقاعد الدراسة وتأخذني الكتب الأدبية بعيدا عن الكتب المدرسية.
- في أي سن بدأ دانيال قول الشعر، وكيف كان احساسه بعدما نشر له أول نصوصه الشعرية؟
بدأت التعبير عن احاسيسي تجاه محيطي بالرسم وفن الخط والغناء وتأليف المقطعات الزجلية قبل دخول المرحلة الإعدادية، لكن في سن الخامسة عشرة بدأت محاولاتي الشعرية التي كنت ارسلها إلى الصحف والمجلات المحلية فتنشر كاملة أو اجزاء منها في زوايا بريد القراء، وفي السنة الموالية صارت تنتشر كاملة في صفحات ‘’الكتابات الشابة’’ وفي سنة 1973 نشر لي الشاعر ممدوح عدوان قصيدة العدد بمجلة ‘’جيش العرب’’ الأسبوعية التي كان ممدوح مسؤول قسمها الثقافي، وفي زاوية قصيدة العدد التي كانت تمتد على صفحتين أو أكثر من المجلة، كانت مخصصة للشعراء المكرسين، وفي ذات العام خصني الشاعر بندر عبد الحميد بزاوية في كل عدد من مجلة ‘’جيل الثورة’’ نصف شهرية التي كان يرأس تحريرها وتتالي ظهور قصائدي في المجلات والصحف السورية التي يشرف على اقسامها الثقافية شعراء وكتاب كبار كعلي الجندي ‘’البعث’’ وزكريا تامر ‘’الموقف الأدبي’’ وخلدون الشمعة ‘’الطليعة’’ وصدر الدين الماغوط ‘’صوت الفلاحين’’ وعبد الله ابو هيف ‘’الشبيبة’’ وأحمد دحبور ‘’صوت فلسطين’’، إضافة الى مجلات ‘’جيش الشعب’’ و’’الجندي’’ و’’جيل الثورة’’ وفي هذه السنة بالذات ‘’كنت في السابعة عشرة من عمرى’’.
حدثنا قليلا عن مسارك الشعري ومجايلك من الشعراء؟
في سنة 1973 في اللاذقية وبيروت قصائد مجموعتي ‘’بردى... ووفود الجوع ورؤى الفتى ‘’اللتين صدرتا في بيروت، كان فيضا شعريا، كنت اكتب ظهرا في الحدائق العامة وايضا خلال نومىي، كان يجانب فراشي دائما دفتر وقلم، وكثيرا ما انهض لأدون قصيدة كنت ارددها نائما أو في الحلم، واحيانا كنت انهض في الصباح لأتذكر قصيدة حلمت بها فأفرغها على الورق كاملة، وفي الوقت نفسه قمت بقراءات مكثفة شملت إلى جانب مجلدات ‘’الأغاني’’ للأصفهاني ودواوين المتنبي وأبي نواس، وابي تمام، وابن الفارض، وأبي فراس الحمداني، وديوان الشعر العربي الذي قدم له أدونيس واختار قصائده، وجميع الأعمال الشعرية الكاملة لرواد الشعر المعاصر كالسياب والبياتي والملائكة وأدونيس وعبد الصور وحجازي والحيدري وحاوي والخال ومجموعات شعرية متفرقة لشعراء سوريين وفلسطينيين، فضلا عن قراءة كل ما وقع تحت يدي من الشعر المترجم لماياكوفسكي وبابلو نيرودا واراغون ولوركا، وكيتس وييتس، و ارثر رامبو، وبودلير، وخاصة كتاب ‘’الشعر والتجربة’’ لماكليش الذي أهدانيه الشاعر بندر عبد الحميد و’’ثورة الشعر الحديث’’ لعبد الغفار مكاوي بجزءيه وجميع اعداد مجلة ‘’شعر’’ التي حصلت عليها من مكتبة الصديق الشاعر محمد خالد رمضان، وكتبت مجموعتي الشعرية ‘’غليون لتدخين الأحلام’’ خلال زيارة سرية الى دمشق سنة 1974 لأنشرها بعد سنوات في بيروت، لاحقا وبعد التحاقي بالثورة الفلسطينية حيث تسلمت القسم الثقافي وسكرتارية مجلة ‘’الهدف’’ لسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في التاسعة عشرة من عمري انشغلت أكثر بالشأن السياسي، فانعكس ذلك بالضرورة على شعري، كما يبدو واضحا في مجموعتي ‘’أناشيد النورس’’ و’’قصائد الحرب’’، لكن بعد احتياج بيروت وخروجي مع منظمة التحرير الفلسطينية الى تونس حيث أقيم حتى الأن، لاحظ النقاد انعطافا جماليا على مستوى الشكل الايقاعي والصور الشعرية والمهارات التقنية في كتاباتي الشعرية منذ مجموعة ‘’عشبة على حجر’’ التي كتبتها في تونس وصدرت عن دار العودة بيروت سنة 1986 وواصلت الكتابة الشعرية في مسار تجريب يعتمد حياتي اليومية وتفاصيلها كمرجعية اضافة الى تجربتي الثقافية والسياسية والمهارات التقنية التي اكتسبتها بحثا عن تحقق اكثر للشعرية في القصيدة وتوخيا للانتقال من مرحلة اجمالية الى اخرى فأنا معني بأن أعبر جماليا بلغة جديدة وصورة جديدة واحساس جديد، وما يقوله النقاد مشجعا، على الرغم من أني لا اعرف إلى أين قد انتهى.
أما بخصوص مجايلي من الشعراء فثمة مفارقة تتعلق بأنني أحسب على شعراء السبعينات جنبا إلى جنب مع شعراء أكبر مني سنا، وكانوا مكرسين وممن شجعوا تجربتي الشعرية في بداياتها كبندر عبد الحميد وسليم بركات الذي التقيته لأول مرة في بيروت ولكن على الرغم من أن بيروت كانت تعج بالشعراء العرب الذين جمعتني بهم لقاءات متفرقة لكن مؤيد الراوي وسليم بركات كانا الأقرب إليّ.
من هي التي أرقصت قلبك وزادت نبضه وجعلتك تحلم بها؟
قبيل بلوغ مرحلة المراهقة ربما كان ينتابني شعور خاص في حضرة فتيات كن يبدين لي جميلات، وكان خيالي يذهب بهن ومعهن بعيدا، لكن وهم الحب ارقص القلب كثيرا، حياة المبدع كما يبدو لي مستمرة على نهر من الحب لأن مياهه تتحدد كل لحظة المهم أن يبقى ذلك الشغف الذي يجعلنا نؤكد لأنفسنا ولغيرنا أننا نحب حقا.
لو عاد بك الزمن الى تلك المرحلة هل ستقع من جديد في حبها؟
هذه الـ.. ‘’لو’’ الشيطانية غير مناسبة هنا. عندما يزول الشغف لا يمكن العودة الى الذي كان معشوقا، علما أنك حين تكف عن حب معشوقك لا يعني بالضرورة انك بدأت تكرهه.
- الشعر العربي الحديث... كيف حاله الأن... وهل فعلا تنافسه الرواية على الزعامة في حياتنا الأدبية؟
نحن العرب نلوك المفاهيم ولا نهضمها. الحداثة مفهوم شامل ونقلة تستجيب لتطور حياة البشر وحاجاتهم على معطيات واقعهم في المجالات كافة، ونحن العرب عجزنا عن متاخمة الحداثة في المجتمع والاقتصاد والتقنية وبالتالي السياسة والفكر ولكننا نستهلك ثمارها استهلاك اكراهيا سلبيا كما هو حال استهلاكنا للأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ولذلك نحاول أن نتجاوز محاكاة الحداثة الغربية في الشعر والفنون الآداب الى فعل حداثي ابداعي مادامت الاخيرة نشاطا فرديا، لكن حتى في هذه الحالة تبقى حداثتنا فقيرة لأنها تفتقد متلقيا حديثا في مجتمع متخلف شبه أمي، وبالتالي فإن المثلث الذي يجب تحقق اضلاعه الثلاثة الذي تقوم عليه القصيدة ‘’الشاعر واللغة والمتلقي’’ فقدنا الضلع الثالث في ستينات وسبعينات القرن المنصرم.
كان العرب في حالة نهوض نسبي وكانت الأمية في تقهقر فوصلت نسبتها الى الصفر تقريبا في بعض الدول العربية كالعراق وسوريا وحتى في مصر وغيرها، وواكبت الحركة الشعرية حركة نقدية نشطة وجادة وكان النشر في المنابر الأدبية ذا شروط فنية صارمة وبالتالي كانت الذائقة أعلى، ولكن مع بدء انهيار النظام العربي منذ اتفاقيات كامب ديفيد وتداعياتها في مصر مرورا بحصار العراق وغزوه صولا الى ‘’ثورات الفوضى الخلاقة’’ في تونس وسوريا وليبيا ومصر واليمن وانهيار الدولة الوطنية ومؤسساتها التعليمية والثقافية واجتياح الأمية مجتمعاتنا واندثار الحركة النقدية وغياب شروط النشر تراكمت النصوص التي تحسب على الشعر وفسدت الذائقة وبات كل شيء في الحضيض، فانتقل ما تبقى من قراء الى الرواية ربما بحثا عن الشعرية التي غابت عن ركام القصائد الرديئة.
كثيرا ما أثيرت وتثار زوابع نقدية بين الرفض والقبول لقصيدة النثر، كيف ينظر الشاعر هادي دانيال لهذه الإشكالية الشعرية، وهل هي قصيدة أم أنها كتابة خصية، كما يقول عنها البعض؟
على مستوى تجربتي، بدأت كتابة ما يعرف اصطلاحا بقصيدة التفعيلة التي خرجت من وعلى القصيدة العمودية التي من البداية كأي كقارئ، ووجدتها متكلسة رتيبة على مستوى الايقاع فما بالك ان كانت قوامها الوحيد سلامة الوزن واللغة أي جودة النظم. ولأنني اعتقد أن السجال الذي اضطرم ثم خفت بشأن ‘’قصيدة النثر’’ جانب الأسئلة الجوهرية بشأن شرعية عدها شعرا أو ابعادها عن هذا الجنس الابداعي نشأ على مرجعيتين باهتتين، فأنصار ‘’قصيدة النثر» دافعوا عنها بتنظيرات ‘’سوزان برنار’’ لقصيدة النثر الفرنسية، وخصومهم رفضوها بناء على تعريف نقدي قديم للشعر بأنه ‘’كلام مرزون مقفى’’ وواقع الحال أن النظم بالبحور والصدر والعجز والقافية الواحدة أو بالتفعيلة وتعدد القوافي أو بدون بحور وتفعيلات وقواف كما هو حال قصيدة النثر، هي جميعها أشكال ايقاعية لا تحدد شعرية القصيدة فكما أن امرؤ القيس قال شعره قبل ضبط الأوزان والبحور فإن محمد الماغوط الرائد الأهم لقصيدة النثر العربية لم يقرأ لا سوزان برنار ولا قصائد النثر الفرنسية عندما أدهش النخبة والعامة بشعرية قصائده المجردة من الوزن والقافية ومن فخامة اللغة أيضا أنا مثلا اعتمدت عدة اشكال ايقاعية في النص الواحد وكثير النقاد لاحظوا ذلك واستملحوه واشاروا الى أنه كان عاملا مساعدا في تحقيق شعرية النص كما أن ‘’قصيدة النثر’’ و’’قصيدة التفعيلة’’ تتجاوران داخل مجموعاتي ‘’رأس تداولته القبعات’’ التي صدرت بتونس سنة 2001 ستصدر ترجمتها الى الإيطالية عن دار النشر ايطاليا الأسبوع القادم، جميع نصوصها ‘’قصائد نثر’’ ولنتأمل مدونة شاعرنا الكبير أدونيس لنتأكد أنه يراوح بين الأشكال الايقاعية المختلفة، خاصة وأنه أهم منظري الشعر العربي الحديث، وقد رأى في كتابات النفري مرجعية تراثية لقصيدة النثر العربية، هذا لا يعني أن جميع شعراء قصيدة النثر أجادوا وأضافوا جماليا فالبعض أو الكثير منهم اما وقع في النمطية أو راوح في تقليد روادها الكبار كالماغوط والحاج وبولص وفائق والراوي، لكن المشكلة برزت في استسهال كتابتها من قبل اناث وذكور فرضوا على جموع القراء المفترضين ركاما حبريا لنصوص لا ترقى حتى الى الخاطرة الأدبية على أنها قصائد نثر نصوص تنفر منها الذائقة خاصة حين تكون ‘’ميزتها» الوحيدة أنها مجردة من الوزن.
- لو طلبت منك النظر الى الخلف، ما هي الصورة التي تسترجعها ذاكرتك من ماضيك الغابر وماضي طفولتك؟
شفقة أمي وامتلاء عينيها الضاحكتين بالدمع حين دخلت بيتنا في دمشق فجرا عندما عدت من بيروت مستخدما الحظ العسكري للمقاومة الفلسطينية سنة 1974 لأغادرها ثانية فلا تراني إلا بعد ثلاثين سنة.
- لو طلبت منك أن تقول كلمة وتمضي في حال سبيلك، ماذا ستقول؟
أقول إني في شوق إليك وإلى جزائرنا الحبيبة فقد مضى على أخر لقاء بيننا أكثر من ثلاثين عاما.