البقاء في الوطن وهو يحتضر أحيانا خير من جنان أوطان أخرى
تعتبر الكاتبة الجزائرية المقيمة بالأردن، خيرة بلقصير، ان لعبة الكتابة هي مُكاشفة للذّات منذ البدء مع كلِا الجنسيين الذّكر والأنثى فمنذ علِق الملح بأصابعي ومنحني عوالم الكتابة لأعلن شهقتي الشّعرية وأنا أسترِق اللّحظة من فوضاها.وبشأن المشهد الشعري في الجزائر قالت إنه متأرجح بين شعر جيد يعوّل عليه في فهم نتوءات صّغيرة تهيمن على بقاء ثمين وعلى توّكل ما نحو ضفاف القصيدة التي تتبنى أبهات الغموض وتتشرّب روح الثّقافات.
الشعب: من هران إلى المملكة الهاشمية رحلة كتابة واستقرار عائلي، كيف خاضت الشاعرة خيرة بلقصير هذه الثنائية، هل هي صدفة أم قدر؟
الشاعرة خيرة بلقصير: في مطلع التسعينيات كان اكتمال بدرُ الشباب وانبجاس عافية الشِّعر من جهة، ومن جهة أخرى كان الوطن يتمخضُ مخاضه العسير، وطن بحجم الدُّنيا والسَّماء مضرَّج بالدِّماء، إرهاب أعمى يأكل الأخضر واليابس، وأسماء تسقط في كل يوم، في الحقيقة كنا الجيل الذِّي دفع ثمنا باهضا من أحلامنا، وانفصالنا عن مشيمة أمّنا الجزائر ربما لم يكن الخيار الأمثل والأنسب للكثيرين الذي هاجروا سرّا وعلانية، أما بالنسبة لي فأراه تسرعًا أكثر من حلّ لأن البقاء في الوطن وهو يحتضر أحيانا خير من جنان الأوطان الأخرى، وكما يقول المثل الشعبي الجزائري المَكْسي بحوايج الناس عريان» بمعنى من ليلبس لباس غيره فهو عار.
بعد رحلة معتبرة في الإبداع الأدبي، أين استقر بك المقام إصدارا، وبحثا أكاديميا؟
الإبداع إرهاصات وغواية، ولأني ملكتُ الغُربة من عودها الفتي إلى مهد الشّعر واشتداد صُلبه إلى لَحْد مقدر في المنفَى إلى من ملَّكني الاغتراب أو على الأرجح لم أكن أملك ما هو نقيض المنفَى آن ذاك، لأني لا أعرفه كما قال سليم بركات..
كنتُ دائما أرنو إلى مكان له ضمانات،، حرية الكلام والتَّنفس، لكن الأماكن مصيدةُ الكاتب، الأماكن تقدير المَوت في نصّ قد لا يأتي أبدا، لهذا فإنَّ كتاباتِي معلَّقة فيما وراء المكان رَمزيا، أي في الزمن الرّمزي كما يسميه بختي بن عودة رحمه الله.
يلجأ الكاتب في قرارة نفسه الى جعل الكتابة غربته ومنفاه، لكنك اخترت الاثنين مرة واحدة، ماذا أضاف لك هذا الخيار؟
الكتابة ليست قرار إنَّما قدر وأنا حملتُ قدري معي في رِحلة طويلة وشائِكة وحتىّ أحمي خيالي وعقلي من الرَّقابة وأمارس إقامتي على دولة من الورق الأبيض..
الكتابة هي مُكاشفة للذّات بعري نزل منذ البدء مع كلِا الجنسيين الذّكر والأنثى فمنذ علِق الملح بأصابعي ومنحني عوالم الكتابة لأعلن شهقتي الشّعرية وأنا أسترِق اللّحظة من فوضاها العارِمة مُشكِّلة من تخومها وتضاريسها فتوحاتي من أجل شعرية ذات معنى وصواب مُجرّدة نفسي من لباس الأنثى المحكوم عليها سلفا بالرّضوخ والرّقابة، في محاولات الشّرنقة وفي انبلاج نحو الضوء لأنقض كلّ المواثيق التي تحول بيني وبين النصّ أعمل على تعزيز انحرافي بانتعاش ثمين يثري هويتي الإبداعية بخصائص جريئة ورؤى أشتغل على خيوطها الرّفيعة ضاربة عرض الحائط بالممنوع وما يعيق مخيالي من الطَّيران والتَّحليق بعيدا، ملتزمة بالخروج عن هديّ العبارة الواحدة المقيدة بالوصايا والمحرُوسة من الآخر، أكتب بأدوات لم أرثها عن أبوة ما يُملى من قواعد شبيهة بنظام السّجن.. تقول الكاتبة جيني هيربكورت: «سادتي لا أستطيع أن أكتب إلا كامرأة بما أن لي شرف كوني امرأة».
المشهد الثقافي العربي يعاني الأمّرين جائحة كورونا، وحالات الإصابات في كتّابه ومبدعيه، أليس هذا حافزا للمضي نحو الكتابة والإبداع بشكل أكبر؟
الكتابة هي موت مُوازي للموت بمفهومه النَّمطي كقدر حتمي يمرّ به الإنسان، غير أنني أحسدُ هؤلاء الذين لا يكتبون،، إنهم يموتُون مرّة واحدة فقط، بيدَ أن الكاتب يموت مرارا وتكرارا بل كلّ ثانية من حياته هي مشرُوع موت، ومشروع بقاء، ومشروع حتف ومشروع مقاومة وانجاز لنسخ كثيرة من إنسان واحد يجاري حرباء كونية تقف على محبرة قلب، وما الكورونا إلا اختبار إلهي يضاف لتجربة الكاتب مثلما مرّ من قبل كوباء الطاعون لقد شحذَ الكتاب أقلامهم جيدا إثر هذا الاجتياح الرَّهيب للوباء في أصقاع الأرض أخرجوا ما لديهم من شعر وومضات وقصص وروايات قادمة لقد أصبح الإبداع في مثل هاته الظروف القاسية واجب وتوثيق يقع على عاتق الكاتب، أذكر هنا تلك المسؤولية الحاذقة في نقل أدق التفاصيل للعالم الموبوء لسيما في جسده وإنَّما في عقله وضميره أيضا، أسوق هنا مثلا: كتب ابراهيم الكوني رصدا مبهرا للتحول في تجربة إنسان يقع عليه جرم فيروس مجهول ويقع عليه أيضا أعباء وتحديات في مواجهة الحياة في تجربة جميلة تحت عنوان: يوميات سجين الوباء.. وهذا ما يعكس حالة أدبية تضاف إلى تجربة الانسان لاسيما في الأدب بكل أصنافه الرواية والشعر والمسرح وباقي الفنون والسينما..
المشكلات الهوياتية تطرح حولها الكثير من الأسئلة الفلسفية، هل ما نعيشه اليوم هو تراكمات استعمارية بالمفهوم التقليدي للهيمنة لا تزال تجترنا؟ أم هو انخراط في الحضارة الغربية والانسلاخ في متونها؟
كل كاتب يُحاول أن يعرّف بنفسه بانتمائه الظاهر بدءا بالمكان والثَّقافة التي ينتمي إليها والمجتمع الذي أتينا منه، لكن في الحقيقة هناك دائما جانبا سريا في كُنه كل الكاتب، جانب مظلم أو غرفة سريَّة تحمل تلك التَّراكمات المتوارثة، وهو ما يجعل التَّعريف بالنَّفس العميقة أمر صعب وسط الأنا الجمعية المضخمة،، منذ الاستعمار الخاشم ومحاولات سلخ الجزائري عموما من هويته هو الهدف الأساس لفرنسا لطمس الانتماء والفكر ومقومات الجزائري كانسان حرّ له جذوره العميقة في التاريخ له لغته ودينه وحدوده على الأرض، أما مسألة الانخراط في الحضارة الغربية التي يفقد من ورائها الحصانة الثقافية فهي لا شك حرب قائمة ومتداولة عكس الاندماج والتفاعل الإيجابيّ مع العولمة الاقتصاديّة والعلميّة والفكريّة، بما يفيد المجتمعَ البديلَ.. مجتمع يتعايش مع الاختلاف الذي لا يعترض مع مقوماته ووجوده.
بعد غربة طويلة كيف تقيّمين المشهد الثقافي في الجزائر اليوم؟
المشهد الشعري في الجزائر متأرجح بين شعر جيد يعوّل عليه في فهم تلك النتوءات الصّغيرة التي تهيمن على بقاء ثمين وعلى توّكل ما نحو ضفاف القصيدة التي تتبنى أبهات الغموض وتتشرّب بروح الثّقافات، الشعر الذي يكون مثل المقايضة الباهرة التّدبير في اللّغة وإنشاد تلك القضايا والحرّيات إلى شعر مثل الصّمغ الذي يعلق بالأصابع، فارغ أجوف لا روح فيه وما هو إلا مجاراة لصنوف من التّوكل الذي لا يعوّل عليه وإذا كان الجيل السّابق جيل متشرّب بعذوبة الكلمة والمواقف الثرّية بتلك الرّمزية العاتية فإن الجيل الجديد له خاصيته وأدواته أيضا. المشهد الشعري في الجزائر فصاميّ إلى حدّ ما شعراؤه ينتمون لقريحة الاغتراب، كثيرون هم وقد أكون واحدة من هؤلاء الذي حملوا على عاتقهم زاد القصيدة غير مكترثين لذلك التبني الناقص لجوهر النص الغارق في العزوف، هؤلاء الذين غادروا جغرافية الوطن المحمومة باللاّرجعة وبغض النظر عن الحصاد للجوائز الذي يحدث تبقى هنالك تلك الفجوة الرّهيبة، وذلك الانتقاص لأصوات جمّة مبهرة لها بصمتها الجمالية ولها وعيها أيضا بعضها أفل لظروف ما وبعضها الآخر يصارع ضمن الموجة الالكترونية التي تحتاج إلى قفازات واعية لانتشالها من براثين الانتشار الإعلامي السّريع، كثيرا ما تغيّب دور المؤسسات الثقافية ليحل محلّها محافل لغو لا أكثر وهذا ليس مقتصرا على الجوائز فحسب بل في العالم العربي برمته ومهما آمنا بخصوبة المشهد الشّعري وتعدد التّجارب اللغوية فيه تبقى التجربة في مضمونها تعاني من نقصان وعدم نضج كاف من أجل حركة شعرية واضحة المعالم.
أي الذكريات تعنُّ لك كلما تذكرت الجزائر؟
الجزائر ليست مجرد طيف يمرّ بذاكرتي من حين إلى آخر، الجزائر حالة وجدانية مستمرة والذكريات فيها كثيرة أقربها إلى قلبي لسعة شمسها، هواء الجزائر، أنا عندما تطأ قدماي مطار هواري بومدين الدولي، أول شيء أفعله آخذ نفسا عميقا أملأ رئتي، الهواء الذي لم أجده في أي مكان من هذه الأرض، ذاكرتي لا تنفصل ولم تفصل يوما عن مشيمة الوطن وعن تفاصيل حياتي هناك، لكن إذا أردت استحضار صورة معينة من الأحداث وأغمضت عيني مثل جلسة اعتراف عند دكتور نفساني فسترد صور كثيرة،، جدي البحار ببدلة شانجاي الزرقاء، سفن أبي، سوق لاباسيي بوهران،، حسْني،، عبد القادر علولة، بختي،، شوارع وهران،، صور، صور، الكثير من الصور والكثير من الفقدان والكثير الشّوق لتلك التفاصيل البعيدة.
حقق النص الجزائري في الرواية، الشعر والنقد وحتى المسرح تفوقه في مهرجانات عربية وقارية، عكس ما كان عليه في السابق، كيف تقرئين هذا التتويج؟
للجزائر مخزون ثقافي وتاريخي عظيم ساعد الكثير من الأدباء والمسرحيين على الاقتباس بإضافات جديدة وحداثية ساعدت النّص على المنافسة الشديدة على المستوى المحلي والعالمي، مازلنا نذكر لحد الآن الشهداء يعودون هذا الأسبوع»،»الحافلة تسير» و»قالوا العرب قالوا: «تلك المسرحيات التي أثرت في الوجدان الجزائري والعربي أيضا مشكلة بذلك أيقونات لا يمكن نسيانها، وأعتقد أن وفي ظل التطور التكنولوجي وسهولة التواصل أصبح النّص الإبداعي نصا مفتوحا زاخر بالتجارب الإنسانية ومتقبلا لثقافة الآخر هذه الخلطة السّحرية التي دفعت بالشعر والنّقد إلى فرض نفسه أما التجارب العربية والعالمية المختلفة.
أذكر على سبيل المثال مسرحية «أنثى السراب» لواسيني الأعرج أو»امرأة من ورق»؛التي حولها مراد سنوسي إلى نص مسرحي وقدم العمل من قبل المخرجة والممثلة القديرة صونيا، باللغة الأمازيغية وقد نالت نجاحا باهرا وغيرها من المسرحيات التي تعكس روح العصر الذي نعيشه.. يأتي التتويج إذا للجزائر في عدة مهرجانات كعربون ثقة للذاكرة الجزائرية وللمبدع الجزائري الذي بمقدوره الكثير وبمقدور أن يراهن دائما على المراتب الأولى بكل ثقة وجدارة.
كلمة أخيرة للوطن، ولوهران..
وهران مهجة الرّوح، وهران مرتع طفولتي وصباي، وهران التفاحة التي قضمها آدم فقط ليرى جمال المُدن قبل هبوطه من سلّم الأبدية، ولو أكمل التفاحة لبقيت «وهران» هناك في الجنة..!
الجزائر مشرقة بوعيها وتاريخها الكبير، الجزائر التي شغلت الورى وملأت الدنى بالهتاف والمواقف الخالدة..جزائر القلب والحنين، الجزائري الكلام الذي فوقه كلام، الرهبة والانبهار سِعاف من البوح لا تكفي، أقول للجزائر كوني دائما بخير فأنت أكبر من أن تصفك الكلمات وأكبر من كل إحساس وأجمل من كل أغنية.