الجزائر لديها الإمكانات للخروج من الظرف الصعب
في ظل نمو سلبي للاقتصاد العالمي مع موجات صدمات أكثر ضعفا في 2021 اذا تم تجاوز وباء فيروس كورونا (كوفيد-19) في سبتمبر 2020 ، كون الوصول إلى إنتاج لقاح حسب اغلب المختصين لن يتم قبل جوان او نوفمبر 2021 ، كما يشير اليه خبيران بارزان في الاستشراف هنري كيسنجر وجاك أتالي على الصعيد الجيو استراتيجي ولكن أيضا النموذج الاقتصادي الاجتماعي، فان العالم لن يكون كالسابق حيث سيعرف تحولات عميقة سلوكية مع إقحام شبكات لا مركزية ودور أكثر مبادرة للمجتمع المدني مثلما يرسمه الخبير عبد الرحمان مبتول في قراءة شاملة للمشهد الراهن محليا وعالميا مبرزا عبر هذا الحوار موقع الجزائر في كل هذا الزخم والشروط التي تستوجبها الإصلاحات للخروج من النفق، أولها توافق وطني شامل حول المصلحة العليا للبلاد.
الشعب: أين يقف العالم اليوم من كل التحولات التي تجري في ظل تأثير قوي من وسائل الاتصال؟
عبد الرحمان مبتول: العالم أمام عتبة ثورة رابعة اقتصادية وتكنولوجية ترتكز على الحوكمة واقتصاد المعرفة. بداية لا ينبغي السهو فكل أمة لا تتقدم تتأخر حتما، مع ثورة النظام الإعلامي الجديد وخلافا للماضي هناك كمّ هائل من المعلومات التي تتدفق في كل لحظة، تعبر حدود الدول دون إذن، غير أن المشكلة في الانتقاء العملي لهذه الكتلة المتجددة باستمرار من أجل التكيف مع الثورة العالمية الجديدة للرقمنة التي تؤثر في سلوكات وتصرفات المواطنين وعلى تسيير المؤسسات والهيئات.
للتكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال تأثير على مستوى التسيير السياسي وادارة المؤسسات والادارات وعلى نمط العيش الجديد مما يحيلنا حتما الى المعرفة والابتكار الدائم في مجتمع يعيش كافة أطرافه من ساسة، مقاولين، مواطنين على وتيرة الاتصال الالكتروني التعددي، التي تفرض اتخاذ قرارات في حينها.
إن التحدي في القرن 21 هو التحكم في الوقت، وكل تأخر في التكيّف مع التحولات يكون ثمنه عزلة اكثر لبلدنا، و لقد اصيبت مؤسساتنا باختلالات منذ مجيئ التكنولوجيات الجديدة من خلال فايسبوك (التواصل الاجتماعي) الذي يساهم في اعادة تصميم العلاقات الاجتماعية والعلاقات بين المواطنين والدولة، من خلال تحريك الجماعات(مجموعات أفراد)، وقد تكون التكنولوجيات واستعمالاتها ايجابية أو سلبية، لمّا تعمل على محاولة جعل المجتمعات كتلة متناسقة، بينما توجد خصوصيات اجتماعية للأمم عبر التاريخ، لذلك هذه «الدكتاتوريات» الجديدة يمكن أن تقود إلى ازالة كل روح للمواطنة عبر الفضاء الافتراضي، الخيال وترويج صور لبث الحذر الشديد بتحريك مجموعات البشر لما يوجد مسؤولون سياسيون بذهنيات متحجرة لا تعرف الاتصال.
انطلاقا من هذا التشخيص وضمن كل هذا الزخم، ما هي معالم العالم الجديد ؟
حسب سيناريوهات عدّة، يتجه العالم إلى تحولات عميقة سياسية، عسكرية واقتصادية اجتماعية وطاقوية (تراجع المحروقات التقليدية واختفاؤها) مع فروع جديدة كما يصفها جاك أتالي لنشاطات الحياة تولّد القيمة المضافة وتفترض تصرفات جديدة ونمطا استهلاكيا جديدا مع دور أكثر للدولة الضابطة وليس المسيّرة.
إن الحروب المستقبلية التي تنتظر العالم هي حرب الغذاء والماء، الحرب الرقمية (مع الجوسسة الاقتصادية) التي سوف تغيّر نمط حياتنا، كما تغّير في العمق الحروب الكلاسيكية وتسيير الهيئات والمؤسسات.
في عالم الرقمنة والانترنيت فان اغلب الجرائد الورقية سوف تختفي لتبقى المجلات المتخصّصة، ولا يعني هذا تراجع المقروئية لكن مع تقليص الأعباء تبرز طرق أخرى للإنتاج والتسويق (ماركتينع) وفقا لقاعدة المعلومة الآنية أي تقديمها في وقتها الحقيقي.
وقد يقود هذا مع ارتفاع حرارة الأرض في ظل تغير المناخ إلى تنقل للسكان خاصة مع ارتفاع مستوى البحر والجفاف مما يحدث تدفقا هائلا للهجرة وما تخلفه من ملايين الموتى وما فيروس كورونا إلا نتيجة لذلك.
لذلك فان المكاتب الدولية للاستشراف التي تقودها دول كبرى في هذا العالم بدأت في التحضير لمواكبة هذه التحولات الجديدة، ما يترتب عنها إعادة صياغة جيو استراتيجية كبرى، وبروز نظام جديد مع قوى اقتصادية جديدة وحوكمة عالمية جديدة توفّق بين الفعالية الاقتصادية وعدالة اجتماعية أكبر من أجل عالم أكثر تضامنا.
يفهم من هذا أن هناك اتجاها يتبلور لصياغة نظام عالمي مغاير للقائم حاليا، ما هي ملامحه الأولية؟
سوف نتجه إلى إعادة تشكيل إقليمي يتأسس حول فضاءات جهوية لتعداد سكان العالم يقدر نهاية 2019 بحوالي 7.7 ملايير ساكن، يرتفع الى 8.9 مليار نسمة في 2030 والى 9.8 مليار نسمة في 2050. ويكون على الصورة التالية:
- الولايات المتحدة (328 مليون نسمة) مع أمريكا اللاتينية والكراييبي تصبح باجمالي 654 مليون نسمة مع تأثير قوي للصين وروسيا على مستوى فنزويلا وكوبا.
- أوروبا (741 مليون ساكن) هي حاليا الفضاء الأكثر غنى في العالم، إلى جانب الولايات المتحدة، مع هيمنة ألمانيا وفرنسا كقوتين اقتصاديتين تليهما ايطاليا، اسبانيا (بريطانيا مع البريكسيت سوف تربطها منطقة للتبادل الحر) وهي يجب أن تتعزّز شريطة أن لا تعطي الأولوية للاقتصاد لكن أوروبا أكثر اجتماعية، مع ساكنة طاعنة في السن (شيخوخة) مع ميول نحو الشرق بإدماج روسيا، أكبر قوة عسكرية، لكن تتجه لتصبح قوة اقتصادية، كونها بوابة أوروبا، لكن أيضا باتجاه آسيا(سيبيريا)، ما يفسر إستراتيجيتها في الشرق الاوسط خاصة في سوريا وإيران.
- الفضاء الآسيوي(4.463 مليار نسمة) حوالي 58 بالمائة من تعداد السكان في العالم مع هيمنة الصين (1.39 مليار ساكن) والهند (1.35 مليار نسمة)، وهما قوتان جهويتان كبيرتان مع نظامين سياسيين واقتصاديين مختلفين، إلى جانب اليابان وكوريا، هو فضاء أكبر سوق في العالم بين 2020/2030 دون اغفال باكستان قوة نووية (213 مليون ساكن) وقوى مثل اندونيسيا، ماليزيا وفيتنام مع أفغانستان بعد إنهاء أزمتها.
في ضوء مؤشرات التنافس الراهن إن لم نقل الصراع بأشكال مختلفة، ما هي التداعيات الإقليمية؟
@@ أوروبا على جانبها الجنوبي(أكثر من 60 بالمائة من الصادرات الجزائرية من المحروقات، مع صعوبة منافسة قطر، ايران، روسيا، السعودية ومن ثمة التصدير نحو آسيا مع كلفة مرتفعة للنقل) ويجب تركيز استراتيجيتها ايضا تجاه القارة السمراء افريقيا، مع 1.216 مليون نسمة في 2019 و25 بالمائة من سكان العالم بين 2035/2040 مع منطقة المغرب (حوالي 100 مليون نسمة) مع مبادلات بينية ضئيلة بأقل من 3 بالمائة مع التحفظ اذا حصل اندماج حقيقي من ضمنه الجزائر البلد المحوري مع قوتين اقتصاديتين جنوب افريقيا (58 مليون نسمة) ونيجيريا (196 مليون نسمة).
القارة الإفريقية في آفاق 2025/2030 هي رهان للقوى الكبرى في 2020/2030/2040 مع تنافس وصراع بين الولايات المتحدة مع أوروبا التي لها نفس الأهداف الإستراتيجية والصين من خلال طريق الحرير.
بالنسبة لهذا الفضاء فان ما يجري في ليبيا من أجل الاستحواذ على ثرواتها الضخمة مع تعداد للسكان بأقل من 6 ملايين نسمة بأغلبية بدوية، حيث تجري حرب أهلية بالوكالة لفائدة قوى أجنبية، وهذه الوضعية غير المتحكم فيها يمكن ان تقود الى عدم استقرار المنطقة ليشمل كل منطقة الساحل ومنطقة المتوسط وأخيرا الشرق الأوسط مهد الحضارات، الذي يحتاج إلى سلام دائم بفضل حوار الثقافات، وهي المنطقة التي تعرف لا استقرار سياسي سوف تعرف أيضا اعادة تشكيل مع أدوار كالتالي: الكيان الإسرائيلي (9 ملايين نسمة مستفيدا من حماية أوروبا والولايات المتحدة وأيضا روسيا التي لديها عدد كبير من المهاجرين الى هذا الكيان، بعض دول الخليج ( السلطة حاليا قائمة على النفط) من خلال العربية السعودية (34 مليون نسمة)، مصر(96 مليون نسمة) وإيران أيضا هي باب لآسيا (82 مليون نسمة) سوف تكون قوة إقليمية كبرى.
ما هي الانعكاسات لكل هذه التحولات وأين موقع الجزائر منها؟
يتجه العالم إلى علاقات جديدة بين الدولة الضابطة والسوق المؤطر بالنسبة لبعض الخدمات الجماعية (الصحة والتربية) مع انعكاسات هامة على العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية.
يجب ان يستعد العالم لصدمات أخرى خاصة آثار الحرب الرقمية، حيث يمكن لفيروسات أن تضرب استقرار جميع المؤسسات والهيئات المحلية والعالمية المترابطة، إذا لم تؤخذ الحيطة والحذر لتفادي آثار مدمرة للصحة البشرية والتلوث لكوكبنا بفعل انبعاث الغازات والحرارة ومنه تبرز أهمية التحديات الإيكولوجية من خلال انتقال طاقوي عالمي متحكم فيه.
والجزائر تمر منذ التوقف عن التسديد في 1994 بأزمة اقتصادية غير مسبوقة وأكثر خطورة بالنظر للتغيرات الجيواستراتيجية العالمية والإقليمية، هي نتيجة سياسات سابقة منذ الاستقلال السياسي، وليس فقط من الفترة الراهنة، بينما الطريقة الوحيدة للبقاء في ظل اقتصاد يتغير باستمرار ان تكون هناك علاقة مع المحيط الدولي بمعنى اقامة بالتدريج الميكانيزمات الحقيقية الديمقراطية التي تراعي أصالتنا.
هل للجزائر القدرات لمواجهة كل هذه التحديات وكيف ذلك؟
للجزائر كل القدرات للخروج من الظرف الصعب ويجب تفادي الرؤية الكارثية ولكن هي بحاجة إلى استراتيجية للتكيف مع التحولات الجديدة العالمية والطاقوية مع قدوم الثورة الاقتصادية الرابعة التي تبنى على الرقمنة، التكونولوجيات الجديدة، الصناعات البيئية مع مزيج طاقوي بين 2020/2030 والذكاء الاصطناعي شريطة انجاز إصلاحات عميقة هيكلية.
ويتطلب هذا حدا أدنى من التوافق السياسي والاجتماعي ورؤية وانسجاما في مبادرة الاصلاحات ولا يجب انتظار معجزة. وكلما تم تأخير الإصلاحات كلما استنفد احتياطي الصرف وأزمة الحوكمة يمكن أن تنجر عنها أزمة مالية اقتصادية وسياسية مع عودة شبح الافامي افاق 2022 وهو ما لا يتمناه اي وطني جزائري.
يجب ان تتهيأ الجزائر لمواجهة عدة تحديات في ظل هذه الاوقات الصعبة مع توترات خارجية في مواجهة رهانات جيواستراتيجية على الصعيد الاقليمي. لذلك يجب جمع كافة ابنائنا بتنوعهم والحيطة من خطر الخلافات التي تقسم القوة .
ومن أجل تكريس استقرار البنية الاجتماعية يجب اسكات خلافاتنا وحماية فقط المصالح العليا للجزائر، الأمر الذي يتطلب حدا أدنى من التوافق الاقتصادي والاجتماعي ولا يعني إجماعا، فالإجماع في الحقيقة مؤشر لتراجع كل مجتمع.