أردت أن يكون عنوان الافتتاحية لهذا العدد بهذا الشكل وان كان من الادبيات، ان العنوان يحمل دلالاته ولا يحيلنا الى هوامشه، ورغم ذلك فأنه لن يكون على حساب نوع المقال المراد الخوض فيه... وبما انه الفاتحة... فأنني سأضطر لأجعل من الشاذ استثناءً... لأن الأمر يتعلق بالقصبة هذه الجوهرة بكل ما تعنيه الكلمة او التسمية من معاني وتاريخ ضارب في قدم هذا الصرح المميز.
الاكيد ان الحديث عن القصبة كمعلم ثقافي وتاريخي يحيلنا مباشرة الى تلك العلاقة الوثيقة والمتشبثة في سلوك سكان هذا الفضاء العمراني، ذي الهندسة الفريدة، اعتبارا من ان السلوك مرتبط اساسا بالحياة الاجتماعية للسكان... فاللباس الموحد للرجال بدءا من قبعة الاسطنبولي الى حذاء الشدة، نزولا الى حايك المرمة الذي كانت النسوة يرتدينه ليتميزن عن الأخريات... الحال لا يختلف عن التأثيث الداخلي للبيوت التي تحتوي أرجاءها على نافورة الماء والصحين وبيت الغسيل أين يتقاسم الجيران مساحته، ناهيك عن رائحة الأعياد والمناسبات، التي من خلال عبق رائحتها المنبعثة في الأركان تشعرك بأن الشهر يتعلق بمناسبة دينية لا يجب التغاضي عنها أو تجاوزها.
القصبة هي الأخرى تلك الأغاني الشعبية التي تؤرخ لحاضر هذه المعمورة من التراث الغنائي أمثال العنقى وبوجمعة وقروابي وشريفة وشاعو وغيرهم... ممن صنعوا هذه الفترة من الزمن البهي، يتغنون في تواصل دائم ومستمر... هي الاسطوانة القديمة أو «التورن ديسك» الذي يحمل جوقا مخروطيا يبعث به الأهازيج خارج الدور وتردد النساء بالزغاريد المتباعدة.
الحديث عن القصبة لا يمكن حصره في هذه الوقفات الطلالية فقط ولا يمكن استحضاره جملة وتفصيلا، لكن المرور على هذا الزخم يحيلنا دون شك الى تلك الطيبة التي يجتمع فيها أفراد الأسرة مع بعضهم بعضا في لمة تحت مصباح خافت يتفاوت صوت الجدة من شذراته، وعويل الأطفال ينفلت من هذا الصمت الساكن.
القصبة لوحة فنية بكل الألوان والتصاميم... إبداع الانسان الذي روض الطبيعة لتكون أداة في يديه ينسج منها تعابير وأشكالا مختلف ألوانها وأحجامها... تتزاوج فيها الحضارة وترفض ان تكون مجرد فصل عابر من الماضي... بل هي الماضي والحاضر والمستقبل معا.
