تحلّق أرواح شهدائنا الأبرار على ربوع بلادنا الغالية في هذا اليوم أول نوفمبر الأغر، فهم الذين وهبوا للأجيال أعظم هدية، الحرية والاستقلال، ويجب ذكرهم بكل وقار واعتزاز واستحضار بطولاتهم وتضحياتهم وإقدامهم على دكّ أركان الوجود الاستعماري الفرنسي إلى غاية استئصاله، ووضع حد لليل طويل مارس فيه المستعمر كافة أنواع الاستغلال والاحتقار والتعذيب، وذلك في ملحمة فريدة أعطت الأمل لشعوب أخرى وجدت في الثورة التحريرية الجزائرية النور الذي يقودها إلى الانعتاق من قيود الاستعمار الغاشم.
ويكتسي مفهوم الحرية والاستقلال معانيَ أكبر بكثير من مجرد حقوق مدنية وسياسية واقتصادية، ليشمل وفي الصميم معاني العزة والكرامة، تتجسد بما يتمتع به الشعب الجزائري من مكاسب مختلفة تتدعّم حصيلتها من مرحلة إلى أخرى، لكن تتعاظم أيضا مسؤولية الحفاظ عليها وحمايتها بالتزام مسار الوفاء لقيم ومبادئ نوفمبر، حتى تستمر الرسالة في كنف تقوية أواصر الانسجام والوحدة وتحويل الاختلاف في الرأي والتصورات لقضايا آنية ومستقبلية إلى طاقة دفع للإرادة الوطنية على درب تحصين السيادة الوطنية وإفشال أي محاولة تستهدفها من خلال ترويج شعارات براقة يمكن أن يتفق حولها الجميع، لكنها تحمل لدى الحاقدين على بلادنا والمصابين بعقدة تاريخ حرب التحرير من وراء البحر وأذنابهم أحلاماً كلها أوهام. ولعل أفضل وفاء لأرواح الشهداء والمجاهدين المخلصين الذين لم يبدلوا تبديلا، أن يحرص، كلّ من موقعه، على ترجمة تلك الروح النوفمبرية في الممارسة اليومية، بالتزام قيم الإخلاص والإيثار عن النفس ورفض أي مساومة، مهما كانت مصاعب الحياة وإفرازاتها السلبية، وتقديم الجواب الشافي لأولئك المتربّصين بالجزائر بلداً ودولة وشعبا، خاصة وأنها استعصت عليهم في أكثر من امتحان، آخره العشرية السوداء التي تحمّلت فيها المجموعة الوطنية أبشع عدوان ضاعف منه صمت البعض وتواطؤ البعض الآخر، ليصطدموا بصمود بطولي لشعب حمل آلامه في صدره مستعينا بماضيه التاريخي إلى أن جاء الفرج من خلال خيار المصالحة الوطنية، التي تجمع شمل الجزائريين بكل ما يتميّزون به من تنوع واختلاف على قلب رجل واحد لمواصلة مسيرة البناء الوطني بالاعتماد على الذات والشراكة الندّية في المجالات الاقتصادية والاستثمارية والانفتاح على ثقافات العالم، تكون فيها الشخصية الوطنية في الطليعة دائما. وليس هناك أفضل واصدق من المرجعية النوفمبرية للتزود بالإرادة التي تتطلبها معركة التصدي للتهديدات التي تحوم حولنا، ومن ثمة ضرورة الالتفاف حول ذلك المشروع المتجدد، الذي لم يتوقف إطلاقا، بإعلاء الراية الوطنية غداة استفتاء تقرير المصير في الخامس جويلية 1962، إنما تواصل ولايزال تحقيق أهدافه الحيوية باستمرار، والتحصّن به، خاصة في مواجهة تأثيرات العولمة، التي تضع السيادة الوطنية للدول الحديثة في صميم مشاريعها الهدامة، بافتعال القلاقل والتحريض على العنف داخل المجتمعات الهشّة التي تفتقر لصمامات أمان ويعوزها المخزون الوطني. وهو ما لا يعني الجزائر، طالما تبقى الصفوف متراصّة والنوايا صادقة والإرادة صلبة على كافة المستويات، تنهل من منبع أول نوفمبر 1954، الذي يبقى بمثابة القاسم المشترك وعنوان الهوية للأجيال المتعاقبة ليتأكد الخلف الطيب أن السلف الصالح من مجاهدي الحرية الأخيار بدّد الوهم الاستعماري وفضحه أمام التاريخ، ومن ثمة لا يمكن إطلاقا أن يتسرب الشك لحظة إلى الصفوف، مهما كانت درجة الاختلاف، ولنا في الذاكرة النوفمبرية أكثر من مثال لتجاوز أبناء الجزائر من قادة الحركة الوطنية وأبطال الثورة التحريرية خلافات حادة حولوها إلى طاقة للوحدة وتعميقها والانسجام وتقويته، من أجل الجزائر وسعادة شعبها الذي يبقى المصدر الأول والأخير للسيادة وصمام الأمان.
مليون تحية لشهدائنا الأبرار
سعيد بن عياد
30
أكتوير
2014
شوهد:1773 مرة