تعوّدّنا، في حياتنا اليومية، على نوع من «النّقد» يحرص على البحث عن النّقائص، ويلهث خلف المثالب، فلا يتريّث في قول، ولا يُعمل العقل في حكم، وأقصى مطمح له لا يتجاوز «الظهور» في أثواب البطولة، ما يدفعه إلى ارتكاب كل الوسائل المباحة وغير المباحة، كي يحقّق ذاته، ويثبت جدارته، ويوهم المحيطين به أنّه صاحب «العقل النيّر»..
والحق أنّ مادة «النقد» عموما، كما دأب عليها النّقاد، إنّما تبحث عمّا ينفع وليس عمّا يضرّ، لهذا تحرص على توضيح أسباب الحصافة أو الاتساق أو الجمال، كي تجعلها في متناول الجميع، غير أنّ واقعنا المعيش، لا يترك فرصة كي يقدّم البراهين على أنّنا (في العموم) لم نعد نستطيع أن نرى في الوجود شيئا جميلا، ولا أن نستوعب رأيا مخالفا، قد يكون حصيفا، ولا نتمكن من النفاذ إليه..
ولو أنّ ملكَة الحكم، نالت بعض الراحة، لعلمتْ أنّ ما هو «رديء» لا يحتاج مطلقا لتوضيح ولا لشرح، فـ»الرداءة» يقدر عليها الجميع، وهي لا تختلف عن الأحكام الجاهزة التي يقدر عليها الجميع كذلك، لهذا، فإنّ العبقرية الحق إنّما تتجلّى ساعة تقديم حلّ موضوعي، أو فكرة مبتكرة، وليس في أثناء التّنمر على مقولة فلان، أو السّخرية من موقف علاّن.
ليس صعبا، على أيّ كان، أن يعدّ مادة ساخرة لاذعة في كلّ ما يحيط به، لكن، من الصّعب أن يعترف الواحد من النّاس أنّ فلانا بذل جهدا، وأنّ علاّنا جاء بالمبتكر.. بل إنّه من الصعب التّوصل إلى فكرة «الشكر» أو إلى واجب «حسن الظن بالآخرين»، فهذه درجة لا يتوصل إليها إلا النّقاد الفاعلون الذين يعرفون حقيقة النّقد..