اليوم مثل البارحة تماما، الأزمات والتّوتّرات ما زالت جاثمة على صدور الشعوب العربية، وكلّما بزغ ضوء في نهاية النفق، إلا وجاء ما يسد أبواب الأمل ويعيد خلط الأوراق وتصعيد الأوضاع، لنقف على مسلسل لا متناهي من الاضطرابات والصّعوبات التي تعيق كل أشكال الاستقرار في الوطن العربي، وتهدّد بنسف “الوحدة” التي تعتبر في كل الأحوال نقطة الارتكاز الأساسية لبناء دولة متماسكة تسع الجميع ولا تقصي أحدا.
دولة السودان، وبعدما اعتقد الجميع أنّها تخلّصت من وجعها برحيل نظام الفريق عمر حسن البشير، وبدأت تتحسّس طريق الخلاص إثر إقرار سلطة انتقالية التزمت بتنظيم انتخابات، وتثبيت قيادة جديدة قادرة على تجفيف دموع السودانيين وتحسين ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، عادت أدراجها إلى المربع الأول، حيث تعيش البلاد على وقع أزمة سياسية معقدة يميزها من جهة، استقطاب بين طرفي عملية الانتقال السياسي المدني والعسكري، ومن جهة ثانية، استقطاب آخر داخل المكون المدني المشارك في الائتلاف الحاكم بين مجموعة الميثاق الوطني التي تطالب برحيل حكومة عبد الله حمدوك، وبين قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، ما دفع حمدوك إلى التحذير من أزمة وجودية تهدد عملية الانتقال السياسي برمته.
وتنص الوثيقة الدستورية التي تمّ الاتفاق عليها في 2019، على أن تكون الفترة الانتقالية لمدة ثلاث سنوات، يترأّس خلالها العسكريون مجلس السيادة الانتقالي 18 شهرا، ثم تنتقل الرئاسة إلى المدنيين، لكن يبدو أنّ الشّراكة بين العسكريين والمدنيين تواجه مأزقا كبيرا، يفسّره البعض على أنّه اتجاه من العسكريين إلى الاستئثار بالسلطة والسعي إلى تهميش المكون المدني، بالإضافة إلى أعباء الأزمة الاقتصادية وأزمة شرق السودان ومصاعب تحديد أفق سياسي ينهي المرحلة الانتقالية دون المزيد من التكاليف التي تثقل كاهل السودان.
في الواقع، الوضع في السودان يحبس الأنفاس، فالذين توحّدوا لتخليص البلاد من نظام فاشل استفرد بالسلطة، وعاث فيها فسادا لثلاثة عقود كاملة، هم الذين نشاهدهم اليوم يتفرقون ويختلفون وينقلون صراعهم على الحكم إلى الشوارع، في حين أن حلّ مثل هذه المسائل والمشاكل لها أمكنتها الخاصة ولغتها الهادئة بعيدا عن تأجيج وتأليب الجماهير بعضها ضد بعض، فمثل هذا الأمر، لعب بالنار، والسودان بتحدياته الصعبة في غنى عن مثل هذا التصعيد الخطير، وبدل ذلك على السلطة الانتقالية بمكونيها المدني والعسكري، أن تجد تفاهما ينهي التجاذب العقيم والصراع المحموم على الحكم، ويعمل على إنجاح الانتقال السياسي للتركيز على مواجهة المعضلة الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية.