يستوقفني وأنا أتابع التّطوّرات الأخيرة للوضع في لبنان قولا حكيما قرأته للأديب الكبير “جبران خليل جبران”، يضع فيه الأصبع على الجرح، ويحدّد أحد المسبّبات الرّئيسية الجوهرية للوجع المزمن الذي تعانيه هذه الدولة الشقيقة منذ عقود، فيقول “ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتحسب المستبد بطلا، وترى الفاتح المذل رحيما...ويلٌ لأمّة مقسّمة إلى أجزاء، وكل جزء يحسب نفسه فيها أمّة”.
حسب ما أعتقد وما يعتقد كثيرون غيري، فإنّ من بين عوامل عدم الاستقرار السياسي في لبنان ودخوله في حرب أهلية مريعة دامت 15 عاما، بل وانزلاقه اليوم إلى وضع اقتصادي واجتماعي دراماتيكي، هو سيف الطائفية والمذهبية السّام، الذي أجهز على وحدة الشعب اللبناني وفتّته إلى طوائف ومذاهب وأحلاف ومجموعات ترتبط الواحدة مثل الأخرى بحبل سري مع جهة خارجية، تأمر بأوامرها وتخدم مصالحها، ولبنان في ظل هذه الحالة يئن وشعبه يعاني، ولا أحد يلتفت لإنقاذه ومساعدته على التخلص من هذا الكابوس المرعب.
نقف اليوم على تطورات خطيرة في لبنان، أزمة اقتصادية غير مسبوقة أسقطت اللبنانيّين من علياء عيشهم الرغد إلى هاوية الفقر والعوز، وبالموازاة، ساء الوضع السياسي وبات على شفا انفجار بدأ يتجلى بوضوح في الشوارع كما حدث الأسبوع الماضي في الطيونة جنوب بيروت، إذ ارتفعت حدة المشاحنات والاتهامات، فهذا يتّهم الآخر بقتل متظاهرين سلميّين، وذاك يتهم الجهة المقابلة بمحاولة اغتصاب العدالة والسعي لفرض سلطته عليها وتوجيهها لصالحه، وبين الاثنين، ارتفع مؤشر ترمومتر التوتر إلى أعلى درجاته حتى أصبح جل اللبنانيّين يفكّرون في شدّ الرحال إلى الخارج، والفرار بجلودهم خشية عودة الحرب الأهلية التي سيكونون أول ضحاياها، أمّا “جنرالات الطوائف”، فهم محميّين بالسلاح ومسنودين بولاءاتهم إلى دول تضمن سلامتهم مقابل ما يقدمونه لها من خدمات لا تقدر بثمن.
عوامل عديدة أدّت إلى انزلاق الوضع في لبنان إلى هذا المنحنى الخطير، لكن الأكيد أنّ السبب الرئيسي لعدم استقرار لبنان منذ استقلاله عام 1943، هو الانقسام الحاد الذي يعرفه شعبه، فالتنوع الطائفي والمذهبي وبدل أن يكون نعمة، تحوّل إلى نقمة وإلى عامل للفرقة والتصادم، وهذا الواقع رسخه الانتداب الفرنسي، ليثبّت اتفاق الطائف سنة 1989 هذا النظام الطائفي، الذي كبح تقدم لبنان نحو الوحدة والاستقرار وتركه غارقا في المتاعب والتوترات، بل وجعله عاجزا حتى عن تحقيق الإجماع حول من يحكمه، فالرئيس لا ينتخب إلا بشق الأنفس، أما الحكومة، فهي لا تولد إلا بعد مخاض عسير، وبتشوهات تعوقها عن أداء مهامها.
بكل تأكيد لن يستعيد لبنان عافيته واستقراره الأمني والسياسي إلا بتجاوز الصراع الطائفي والحزبي والانخراط في عملية تعيد تنظيم الحياة السياسية على أسس تبتعد عن ترسيخ الطائفية والمذهبية، وتعيد بناء الوحدة الوطنية.
فاللبناني - كما كتب أحدهم - “يعاني حالة مرضية مستفحلة، فهو يولد طائفياً ويفكّر طائفياً ويفرح طائفياً ويحزن طائفياً ويتزوّج طائفياً ويموت طائفياً، والطائفية بالنسبة إليه هي الوطن والأولى بالولاء والتبعية”، وهذا الواقع الشاذ يجب أن يتغيّر.