الحلقة الأولى
ترجع العلاقات الجزائرية ــ المصرية الحديثة لبداية الثورة المصرية سنة 1952 وانطلاق الثورة الجزائرية سنة 1954. هذان الحدثان التاريخيان ميّزا كذلك التاريخ الحديث للجزائر ومصر، خاصة فيما يتعلّق بالمقاومة والتحدي للاستعمار والهيمنة الغربية. إنّ هذه المرجعية الصلبة تؤسّس باستمرار لعلاقات جزائرية ــ مصرية متميّزة.
لم يشكّل تزامن الثورة المصرية (1952) للإطاحة بالنظام الملكي المصري الغربي التوجه وتصدي مصر للعدوان الثلاثي (بريطانيا، فرنسا، الكيان الإسرائيلي: 1956) حدثان مشجّعان للثورة الجزائرية فقط، بل ــ مصر شعبا وحكومة ــ لعبت الدور الفعّال والأكبر في تدعيم حرب التحرير الجزائرية. كما شكّل تحدّي الثورة الجزائرية للغرب من خلال فرنسا دعماً كبيراً لتحدي مصر للعدوان الثلاثي (1956)، فمن بين الأسباب الأساسية لمشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر كان تأييد هذه الأخيرة لحرب الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي مثلما عبّرت عنه جبهة التحرير الوطني (01 جانفي 1958):
لا ينسى أيّ جزائري أنّ مصر الشقيقة تعرّضت لعدوان شنيع كانت فيه ضحية تأييدها للشعب الجزائري المناضل، ولا ينسى أيّ جزائري أنّ انتصار الشعب المصري في معركة بور سعيد التاريخية ليس إلاّ انتصار لواجهة من واجهات القتال العديدة التي تجري في الجزائر منذ ثمانية وثلاثين شهرا…وأنّ الشعب الجزائري المنهمك في معركته التحريرية الكبرى ليبعث إلى الشعب المصري الشقيق وبطله الخالد جمال عبد الناصر بأصدق عواطف الأخوة والتضامن، وعاشت العروبة حرّة خالدة وعاش العرب تحت راية الاستقلال، والمعزة والجد.
من إذاعة القاهرة (صوت العرب) سُمع نداء أول نوفمبر. اعتبر الفرنسيون الاستعماريون وحلفاؤهم وأتباعهم مصر المصدر الأساسي لتدعيم حرب التحرير الجزائرية: «إنّ الشر كلّه جاء من إذاعة القاهرة».
تأسّست إذاعة «صوت العرب» في جويلية 1952، عقب الإطاحة بالنظام الملكي المصري. هدف قادة النظام المصري الجديد هو مناصرة قضايا التحرر والاستقلال العربي إعلاميا وسياسيا. لقد كانت إذاعة «صوت العرب» قناة أساسية للتعبئة الجماهيرية ضد الاستعمار والهيمنة في الوطن العربي.
تزامن تأسيس هذه الإذاعة مع تصاعد نضال شعوب المغرب العربي من أجل الاستقلال والتحرر، ومع كفاح الشعب اليمني ضد الاستعمار البريطاني. ومع اندلاع ثورة أول نوفمبر الجزائرية أصبحت الإذاعة مصدرا أساسيا للتحسيس والإعلام بمبادئ وأهداف جبهة التحرير الوطني، مذكّرة ببشاعة الجرائم الاستعمارية ومواجهة دعاية العدو. لقد كان «صوت العرب» قوة موازية ومدعّمة لإسماع العمل المسلّح الجزائري ومحاربة الدعاية الفرنسية الإعلامية ضد حرب التحرير الجزائرية. كما وجد الطلبة الجزائريون بمصر في إذاعة «صوت العرب» مصدرا لبثّ بيانات ورسائل إعلامية للشعوب العربية، بالإذاعة كذلك كانت هناك برامج خاصة للمغرب العربي ككل يشارك فيها مسؤولو الحركات الوطنية بما فيها جبهة التحرير الوطني أمثال توفيق المدني، عبد القادر نور، عدة بن قطاف إبراهيم، حاج حمو، عبد القادر بن قاسي وعبد الرحمان كيوان وغيرهم...هؤلاء كانوا يُنشِّطون دوريا حصصا خاصة لتزويد المستمع العربي بآخر التطورات وأحداث حرب التحرير الجزائرية. وكما عبّر عن ذلك المجاهد والإعلامي عبد القادر نور:
لقد كان «صوت العرب» مصدرا إعلاميا قويّا للتعبئة الجماهيرية العربية بجانب حرب التحرير الجزائرية، وكانت الشعوب العربية والإسلامية تحييّ انتصارات الثورة الجزائرية، وتعتبرها انتصاراً للعالم العربي والإسلامي. كان ذلك الحسّ القوي والتجاوب الكبير بين «صورت العرب» والمستمعين العرب والمسلمين.
كما كانت القاهرة مقرا للجنة تحرير المغرب العربي المكوّنة من ليبيا، تونس، المغرب والجزائر (أفريل 1945). كان النشاط السياسي لهذه اللجنة، الذي توسّع نشاطها إلى دمشق، دورا فعّالا في تدعيم ربط المغرب العربي بالمشرق العربي.
وبالقاهرة كذلك كان القرار التاريخي لجبهة التحرير الوطني وهو تأسيس (1958) الحكومة الجزائرية المؤقتة، وحتى تحول (1960) النشاط الأساسي للحكومة الجزائرية المؤقتة من القاهرة إلى تونس (لأسباب استراتيجية خاصة عامل القرب الجغرافي)، أهم مجالات التنسيق الدبلوماسي الجزائري كانت تتم عن طريق مصر، ومعظم النشاطات السياسية والدبلوماسية لجبهة التحرير الوطني والحكومة الجزائرية المؤقتة انطلقت من القاهرة، الرئيس جمال عبد الناصر نفسه أو عن طريق مستشاره الشخصي فتحي الذيب كان يشرف على عملية التأييد المعنوي والمادي للثورة الجزائرية، والتأكد من تعميق قوة التضامن المصري مع الجزائر بما فيها حتى حضوره الأسابيع الخاصة للتضامن مع الشعب الجزائري والتي كانت تنظّم دوريا عبر أنحاء التراب الوطني المصري، متضمّنة جمع التبرعات المالية والتعبئة المعنوية والإعلامية، تنظّمها وتنشّطها القيادة المصرية وعلى رأسها الرئيس جمال عبد الناصر وتحت إشراف القيادة المصرية كذلك، كان الشعب المصري يحتفل بالذكرى السنوية لاندلاع ثورة نوفمبر دوريا، مصحوبة بتعبئة جماهيرية وإعلامية لا تقل أهمية عن احتفال الشعب المصري بالثورة المصرية نفسها، مرفوقا بنوابه وأعضاء الحكومة المصرية وبمناسبة الذكرى السادسة (نوفمبر 1960) لثورة نوفمبر كان الرئيس جمال عبد الناصر على رأس الاحتفال والتجمع الجماهيري الكبير، في هذه المناسبة ذكر الرئيس عبد الناصر:
«إنّنا ونحن ننظر إلى شعب الجزائر وهو يستقبل العام السابع لثورته نحمد الله الذي مكّن شعب الجزائر من أن يصمد ويثابر بدون وهن، وليجابه أكثر من 800 ألف جندي من قوات فرنسا بقوته وأسلحته القليلة ثم يدوّخ فرنسا وجيوشها وأسلحة الحلف الأطلسي التي تعتمد عليها فرنسا ويدوّخ الدول التي تدّعي أنها تمثل العالم الحر».
أكّد السيد توفيق المدني، ممثل البعثة الجزائرية بالجمهورية العربية المتحدة في هذه المناسبة:
«إن الشعب العربي في الجزائر قضى حياته منذ العصور الأولى مكافحا دون أن يستكين للمستعمر، فإذا غلبته القوة يوما تربّص بمغتصبيه ثم ثار وأشعل النار ليعيش عيشة الأحرار، فالجزائريون يعرفون طريق الموت ويعرفون طريق النصر ولكنهم لا يعرفون طريق الخضوع والاستسلام».
أول شحنة سلاح جاءت من مصر وقدّرت بحوالي 8000 (39) جنيه وتمّ تمريرها عن طريق برقة (ليبيا)، وكما كانت أول صفقة سلاح من أوروبا الشرقية بتمويل مصري (حوالي مليون دولار) ومعظم الأموال (75%) التي كانت تقدّمها جامعة الدول العربية لثورة الجزائرية والمقدّرة بـ 12 مليون جنيه سنويا كانت تأتي من مصر، أهم التدريبات العسكرية الفعّالة لجيش التحرير الوطني خارج الجزائر كانت تتمّ بمصر.
بمناسبة تأسيس الحكومة الجزائرية المؤقتة لعبت مصر دورا أساسيا في دفع أعضاء جامعة الدول العربية لتخصيص 12 مليار فرنك فرنسي قديم للثورة الجزائرية، وبقرار من الرئيس عبد الناصر نفسه خصّصت مصر المداخيل الأولى من تأميم قناة السويس للكفاح الجزائري، هذه المبالغ التي وصلت إلى 3 مليارات فرنك فرنسي قديم.
سياسيا ودبلوماسيا لعبت مصر دورا هاما في تدعيم مشاركة الجزائر وتمثيلها في مؤتمر باندونغ (ماي 1955)، كما كان لمصر دورا فعّالا في تمكين الجزائريين من لعب دورا مؤثرا في منظمة تضامن الشعوب الأفرو ـ آسيوية منذ نشأتها بالقاهرة (ديسمبر 1957).
ما يميّز مؤتمر باندونغ هو ليس تدويل القضية الجزائرية ومساندتها معنويا فقط، بل أكثر من ذلك التزام أعضاء المؤتمر بتقديم المساعدة المادية لحرب التحرير الجزائرية وتأكيد شرعية مطالب الشعب الجزائري وشرعية الوسائل المستعملة (العمل المسلح) من أجل الاستقلال والحرية، كان ذلك من بين التزامات الدول المشاركة في مؤتمر باندونغ التي أكّدت «تقديم مساعداتها المحسوسة إلى الشعوب المكافحة من أجل استقلالها».
شكّل مؤتمر باندونغ (أفريل 1955) والذي جاء شهورا قلائل بعد اندلاع ثورة نوفمبر (1954) أول فرصة واسعة لطرح القضية الجزائرية على المستوى الدولي لم يؤكد المشاركون في المؤتمر فقط تأييدهم المعنوي للقضية الجزائرية دوليا بل التزموا بالمساندة المادية لحرب التحرير الجزائرية:
إنّ مؤتمر الدول الأفرو - آسيوية يؤيّد حقوق شعوب الجزائر والمغرب الأقصى وتونس في تقرير مصيرها بنفسها ونيل استقلالها..وتلتزم بتقديم مساعدتها المحسوسة إلى الشعوب المكافحة من أجل استقلالها.
لقد كان التنسيق الجزائري ـ المصري مكثّفا ومتكاملا في تعامله دوليا لتعبئة الرأي العام العالمي لمناصرة أهداف التحرر الوطني في الجزائر، نشاطات خاصة للساسة المصريين تحت توجيهات الرئيس عبد الناصر، كانت مخصّصة لتدويل وتدعيم القضية الجزائرية، وفي نفس الاتجاه كان لمصر دور ديبلوماسي فعّال سواء على مستوى علاقاتها الثنائية أو على مستوى المحافل والمنظمات الدولية. محمود فوزي، ممثل مصر لدى منظمة الأمم المتحدة، أكد في تدخّله (ديسمبر 1957):
«إنّ الشعب الجزائري العظيم قد أكّد، بدمائه التي قدّمها، عزمه على نيل الاستقلال بصفة لا تترك المجال للشك، وأنّ هذه الحقيقة لا يمكن أن تعدل بل يجب الاعتراف بها وقبولها في الوقت اللازم وبكل تعقل..إنّ الشعب الجزائري قد صمّم العزم على أن يعيش في ظل الكرامة والحرية.
(...يتبع)