المقاربـة الجزائريــة تحظـى بالاهتمـام
تتأرجح ليبيا، هذه الأيام، بين مخاض الحل السياسي الرامي لتشكيل حكومة وفاق وطني، وبين تنامي احتمالات تدخل عسكري غربي وشيك يستهدف الجماعات الإرهابية. كل هذا، يمثل لدول شمال إفريقيا والساحل الإفريقي، وبالأخص الجزائر مزيدا من الأعباء الأمنية.
يتابع الرأي العام الوطني، بترقب وقلق شديدين الأوضاع الأمنية والسياسية في ليبيا، ويتوقع متاعب إضافية على الشريط الحدودي. فالمد والجزر والأخذ والرد بين المجلس الرئاسي المخول بتشكيل حكومة الوفاق ومجلس النواب الذي يرفض كل ما يطرحه عليه للمصادقة، وتنامي التنظيم الإرهابي المسمى «داعش»، وترتيب الغرب لعمل عسكري على الأرض، ثلاثة عوامل تدفع نحو تعزيز الشعور بعدم بالارتياح.
المخاوف من تفاقم الأزمة الليبية، لها ما يبررها بالنسبة للأحزاب السياسية، والتي تعتقد أن ما يخطط له في هذه الدولة الجارة والشقيقة، يستهدف الأمن القومي الجزائري، ويهدد ما تنعم به من أمن واستقرار.
وبين التعاطي والخاطب السياسي مع ما يجري في ليبيا، وبين الوقائع على الأرض وما تبدله الدولة الجزائرية، لمواجهة ما تفرضه هذه الأوضاع من تحديات، فوارق نسبية، يمكن التوضيح فيها، من خلال تقريب الصورة، بشأن ما إذا كان الإرهاب في ليبيا يشكل تهديدا جديا على الأمن القومي للبلاد؟ والتمحيص في منهجية تعامل الدبلوماسية الجزائرية مع الأزمة؟.
مقاربات وبدائل
لو نبدأ من التساؤل الأخير، سنجد الجواب التالي «..على الجميع أن يدرك أن الأزمة الليبية تختلف بشكل جذري عن الأزمة في مالي» أو عبارة أكثر تلخيصا «ليبيا ليست مالي»، والكلام هنا لمصدر دبلوماسي جزائري رفيع.
ويقصد، ذات المصدر من وراء ذلك، أن المنهجية التي اتبعتها الجزائر في معالجة ملف الأزمة في مالي، تختلف تماما مع ما تقوم به حاليا لمساعدة الأطراف الليبية على التوصل إلى حل سلمي. ولا يعني ذلك تخليها على مبدئها الثابت في تغليب الحوار واللغة السلمية ولكنها تعمل على القضية بأسلوب مختلف.
ما هو هذا الأسلوب؟، إن التمعن في الجهود التي بذلتها الجزائر في مسار التسوية السلمية للأزمة الليبية، يبين أنها تحتل «دورا مركزيا في تقديم المشورة السياسية والخطوط العريضة لمخرجات الحل»، للأمم المتحدة باعتبارها قائدة الوساطة والفرقاء الليبيين.
ولم تتحمس الدبلوماسية الجزائرية، لما يتردد على لسان أكثر من جهة بأنها البلد الأنسب والأصلح لقيادة مسار الحل، واستمرت في دعم جهود المبعوث السابق للأمم المتحدة إلى ليبيا برناردينو ليون، والحالي مارتن كوبلر، لأنها «ترى في الهيئة الأممية المسؤول الأول والأوحد عن الوساطة في ليبيا».
ورأت الجزائر، أنها تستطيع أن تساعد الليبيين وتطلعاتها في بناء دولتهم، من هذا الموقع بدل التوغل إلى عمق أكبر، فالتناقضات السياسية والأمنية بين فرقاء هذا البلد كبيرة، وأول خطوة على طريق الحل تكمن في وعيهم بالمسؤولية التاريخية وآمال الشعب الليبي في الأمن والاستقرار.
وفي ليبيا، هناك من يتشبث بما يعتبره ثورة 2011، وهنالك من يقلل مما تحقق على وقع ضربات الناتو، والأغلبية غارقة في صراع المواقع والمدن بحثا عن السلطة والشرعية، والأخطر وجود أكثر من 6700 إرهابي داعشي يسيطرون شريط ساحلي طويل بمدينة سرت.
أمام هذا الوضع رأت الجزائر، في الأمم المتحدة، الجهة الأصلح لتحمل المسؤولية والعمل على المخرج السلمي، وهنا يؤكد المصدر الدبلوماسي الرفيع لـ»الشعب» بالقول: «أننا أبلغنا وجهة نظرنا للهيئة الأممية، بأن الحل يتم عبر حوار شامل، يتوج بحكومة وحدة وطنية تشرف على مرحلة انتقالية، وتتولى مهمة استعادة بناء المؤسسات الدستورية ومحاربة الإرهاب».
وأضاف «استقبلنا عديد الأطراف الليبية، وأقنعناهم بأن الخاسر الأكبر من استمرار الاحتقان هي ليبيا، ولن يكون غالب ولا مغلوب في العنف الدائر، ومن مصلحة الشعب التوصل عبر الحوار إلى حل نهائي ومستدام».
المسؤولية الإلزامية للأمم المتحدة
الأمم المتحدة سارت على هذا النهج، وسارع مبعوثها السابق برناردينو ليون، إلى الجزائر، في أكثر من مرة لنجدته وإقناع أحد الأطراف باستكمال الحوار، على الرغم من أنه فضل العمل التوافقي على وثيقة الاتفاق في بلد بعيد عن مجريات الأحداث، ولعل سوء اختيار المكان من أسباب عدم الصياغة الجيدة للاتفاق وتعثر تبني حكومة وحدة وطنية إلى غاية اليوم.
وتتفق دول الجوار، تونس، النيجر، التشاد، السودان ومصر مع توجه الجزائر، رغم ميل بعض من هذه الدول في البداية إلى جهة معينة، ولكنها في الأشهر الأخيرة أبدت انسجاما مع الموقف الجزائري، واكتفت جميعها بالمتابعة وتبادل المعلومات حول الأوضاع الليبية في اجتماعات عادية، تعقد بشكل دوري.
لكن، ما الذي يجعل من الأمم المتحدة مسؤولة عن الحل السلمي في ليبيا؟ دون التعمق في البحث، يكفي استذكار القرار الأممي رقم 1973، الصادر في 17 مارس 2011 والذي أتاح للناتو التدخل عسكريا، ومن هنا تحولت مبدأ «مسؤولية الحماية» الذي بررت به الهيئة القرار، إلى أكبر خطأ تاريخي ترتكبه باسم الشرعية الدولية.
وباتت الهيئة التي يرأسها بان كي مون، مجبرة أكثر من أي وقت مضى على التكفير عما اقترفته بحق الشعب الليبي. هذه القناعة تقتسمها غالبية البلدان الإفريقية، وعبر عنها صراحة رئيس جنوب إفريقيا، في سبتمبر الماضي بنيوريك في خطابه بمناسبة الدور 70 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
ولم تنجح الهيئة الأممية، إلى حد بعيد في التقريب بين الأطراف الليبية بالشكل اللازم، بدليل أن الاتفاق الموقع عليه، لم يجد طريقه نحو التنفيذ ولازالت تفاصيل صغيرة منه تحول دون ذلك، والسبب أن القوى الدولية المسيطرة على الهيئة راهنت على عامل الوقت، وأصرت على التوقيع بأسرع وقت ممكن خوفا من اتهامات بالفشل، لكن الخلافات التي حالت دون تبني البرلمان لحكومة الوفاق الوطني باعتبارها الهدف الأسمى من الحوار، كان من الممكن تجاوزها بتكثيف التشاور قبل التهليل بحفل التوقيع.
وأمام هذا الدعم المتذبذب، من قبل المجموعة الدولية، لا تدخر الجزائر أي جهد، في إقناع الأطراف الليبية بأن مسؤولية الحل بين أيديهم ومصير الدولة ليبيا الحديثة، مرتبط بالوعي الوطني لديهم ومدى استجابتهم لتطلعات الشعب الليبي، لأنهم أبناء البلد وعلى وأدرى من الجميع بما يحتاجه وما يتهدده.
يقظة وجاهزية لمواجهة أي طارىء
في فجر يوم 19 من شهر فيفري المنقضي، طائرة أمريكية، استهدفت ما أسماه مسؤولو البانتغون «رأس الأفعى»، وهو قيادي إرهابي داعشي كان يختبئ بمنزل سوي بالأرض وبداخله أزيد من 50 عنصرا.
الغارة الخاطفة، كانت بالنسبة للبعض بداية التدخل العسكري الغربي لمكافحة الإرهاب، وأطلقت صافرات الطوارئ في أزيد من بلد جار لليبيا، وبدأت التوقعات بشأن التداعيات والانعكاسات.
وزير الدولة، وزير الخارجية رمطان لعمامرة، قال على هامش الاحتفال بالذكرى المزدوجة لتأميم المحروقات وتأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين، أنه «لا داعي للقلق أكثر من اللازم»، ليضيف «الجيش الوطني الشعبي ساهر ليلا ونهار على أمننا وأمن دول الجوار».
وتستدعي عبارة «أمن دول الجوار» وقفة تأمل، فالدور الأمني للجزائر يتعدى حدود البلاد، وقد سبق للعمامرة أن صرح بأن «بلادنا تعمل على تصدير الأمن للمنطقة»، ومن هذا المنطلق لا يمكن للإرهاب الفار من ضربات الغرب أو شحن السلاح المتنقلة وكل ما يساق من تحليلات من هذا القبيل، أن يأخذ أكثر من حجمه.
وكما قال اللواء المتقاعد عبد العزيز مجاهد لـ»الشعب»، فإن «الجاهزية القتالية في الجنوب هي مثلها في الشمال، واليقظة والاستعداد من ثوابت العقيدة العسكرية للجيش الجزائري». مشيرا إلى قدرة القوات المسلحة على التصدي لأي تهديد مهما كان حجمه وبلغت قوته، ولها في ذلك العدة والعتاد اللازمين.
وحسب البروفيسور عبد السلام بن زاوي، مدير المدرسة العليا للصحافة وعلوم الإعلام، « فمنذ الاستقلال كانت قناعة كبار مسؤولي الدولة الجزائرية، أن أكبر خطر يمكن أن يهدد أمننا القومي هو ذلك القادم من الجنوب»، ومن هذا الباب تكتسب قواتنا الأمنية معرفة دقيقة بالمنطقة.
ويدعم هذا الطرح الضابط المتقاعد، في دائرة الاستعلام والأمن سابقا، محمد خلفاوي، بالقول: «الجزائر أكثر دولة حاضرة في ليبيا، وهذا طبيعي بالنظر للأهمية الإستراتيجية التي تمثلها على أمننا القومي».
وفي هذا السياق، يمكن تبرير الأريحية والهدوء التي يتبعها صناع السياسة الخارجية الجزائرية، في التعامل مع الوضع الليبي، كما أن جميع المعطيات تؤكد على أن تداعيات أي تدخل عسكري جديد لن تكون أسوأ مما هي عليه الآن أو فور تهاوي مؤسسات الدولة سنة 2011، وكفي التدليل على ذلك بأن أزيد من 70 مليون قطعة سلاح منتشرة في الأراضي الليبية، ولم تفلح الجماعات الإرهابية في تنفيذ أي اعتداء نوعي، بل دفعت عقب كل محاولة الثمن غاليا.