“بوطبيلة” و«تاعريفت”

عادتان اندثرتا يفتقدهما القصر أنقوسة العتيق

ورقلة: إيمان كافي

”إبلدين” خدامين العرش توارثوا “بوطبيلة” لأجيال متعاقبة

 تعد بوطبيلة عادة قديمة من تراث مدينة أنقوسة أو بالأحرى قصر أنقوسة العتيق، لأن بدايتها كانت تمارس في أرجاء القصر عبر أزقته، ويظهر بوطبيلة خلال شهر رمضان الكريم ليلعب دور الإعلام من أجل إيقاظ الناس للسحور، حيث ينطلق عمله بمجرد أن يصل الخبر إلى المدينة بأنه قد هل هلال شهر رمضان، بحسب عبد الحليم دحماني أحد المهتمين بتاريخ وتراث مدينة أنقوسة في حديثه مع “الشعب”.

ذكر المتحدث، من العادة أن يسبق بوطبيلة المؤذن الذي يصعد إلى المئذنة ويقرأ ما تيسر من القرآن الكريم ويتبعه بالأذكار، يكون هذا بحوالي ساعتين قبل آذان الفجر، ثم يخرج بوطبيلة ليجوب كامل شوارع القصر وأحيانا يدق الأبواب لإشعار الناس بالنهوض لتناول السحور، قبل أن يدركهم وقت الإمساك ويسمى بوطبيلة بهذا الاسم، لأنه يحمل الطبل ويقرع عليها ضربتين، ثم يردد عبارات خاصة يسمعها للصائمين وهذه العبارات تتغير كل عشرة أيام.

«بوطبيلة” عبق اندثر
يبدأ في العشرة الأولى بالقول “قوموا، قوموا يا عباد الله قوموا للسحور في طاعات الله” وفي العشرة أيام الوسطى يقول “بابا رمضان شهر النبي شهر الثوبة والمغافرة” وفي العشرة الأخيرة يقول “بابا رمضان جينا نوادعوك ركبت على جمالك وخليتنا أفرح أفرح يا لي راك صايم وأخلع أخلع يا لي راك فاطر ويبقى دينو”، وفي ليلة سبعة وعشرين يضيف للعبارة التي تردد في العشرة الأخيرة عبارة الليلة ليلة سبعة وعشرين.
ويستمر عمل بوطبيلة إلى صبيحة يوم العيد، حيث يتجول في الشوارع قبل صلاة العيد مرددا عبارات التهاني بالعيد ويقول “لعقوبة للداير” وخلالها تمنح له هدايا وعطايا كالدقيق والزيت ومواد غذائية مكافأة له على مجهوداته، طيلة شهر رمضان.
عمل بوطبيلة متوارث أب عن جد ويختص بعائلة محددة لا يخرج إلا منها، وهي إحدى العائلات التي تروى الروايات التاريخية أنهم من أوائل سكان البلدة ووجد جدهم الأول في المنطقة منذ القدم ويطلق عليهم اسم “إبلدين” وكل أعمالهم خاصة لخدمة المجتمع خدمة إنسانية خيرية ومعروفين باسم “خدامين العرش”، من خلال مثل هذه الأعمال ويستخلفهم أبناؤهم وأحفادهم فيبقى هذا العمل متوارثا بينهم وبقيت هذه الأعمال إلى عهد قريب حكرا عليهم بحسب ما أشار إليه عبد الحليم دحماني.
وقال محدثنا إنه من المؤكد أن شهر رمضان الكريم له جو خاص، يستقبله أهل أنقوسة بممارسة عدة عادات وتقاليد خلال الشهر يتغير فيه نمط الحياة عن باقي شهور السنة، وكل هذه الأجواء، تترك أثرا نفسيا عميقا لدى الناس بالرغم من قساوة المعيشة في بعض الأحيان، وهذا الأثر والحنين، يظهر من خلال العبارة التي يرددها بوطبيلة في العشرة الأواخر “بابا رمضان جينا نوادعوك ركبت على جمالك وخليتنا”، وكأنه ضيف حط رحاله ونال ألفة وها هو يركب الجمل ويهم بالرحيل تاركا فراغا في النفوس وكان بوطبيلة يرددها بلحن موسيقي متحسرا.
يتميز بوطبيلة بصوت مرتفع يسمع من بعيد فيما يستخدم الطبل لتنبيه وجلب أنظار السامعين يحملها على كتفه، وقبل أن يردد عباراته يقوم بقرع الطبل ضربتين متتاليتين وبالتكرار يفهم الناس بأنه موعد السحور، هذه العادة قديمة جدا قدم تاريخ مدينة أنقوسة العريقة ابتكرت كوسيلة للإعلام، حرصا على أداء فريضة الصيام في الوقت الذي كانت تنعدم وسائل الإعلام والاتصال، ولأن أهل أنقوسة مجتمع متمسك بالعادات والتقاليد القديمة الموروثة عن الأجداد.
ولاحظ عبد الحليم دحماني أن هذه العادة بقيت إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي أي حتى بعد توفر وسائل الإعلام وخروج السكان من القصر العتيق كان آخر بوطبيلة يدعى عبد الله وتوقف عن هذه العادة بعد أن لزم فراش المرض وتوفي سنة 1998، ولم يستخلفه للتواصل أحد من أبنائه أو أبناء أخيه، ما عدا محاولة واحدة من طرف ابنه الأكبر وكانت لأيام معدودات وفشل في ذلك نظرا للتطور الذي عرف في مجال الإعلام والاتصال والتوسع العمراني الكبير للمدينة.

صدقة “تاعريفت”
من بين العادات والتقاليد الأخرى التي يعرفها قصر أنقوسة العتيق، خلال شهر رمضان عادة تاعريفت وهي تصغير لكلمة المعروف ويقصد بها الصدقة التي توزع على الأطفال.
ويعود تاريخ هذه العادة بحسب ما ذكر عبد الحليم دحماني المهتم بتاريخ المنطقة إلى اعتقادات مرتبطة بأولياء الله الصالحين للمدينة، وهذا راجع إلى الجانب التاريخي الذي يروي لنا أن مدينة أنقوسة، تأسست بفضل أولياء الله الصالحين وعملوا على تشكيلها والمحافظة على تجانس مجتمعها.
 من بينهم الولي الصالح سيدي صالح بن موسى الذي قدم من الساقية الحمراء في القرن التاسع ميلادي وأسس المسجد والزاوية في القصر، فهذا الولي كان يتداول بأن له أملاك من الأجنة ينفق منها على المحتاجين وكان له رفيق الدرب الولي الصالح سيدي امبارك الصايم، الذي تولى أمور سيدي صالح بعد اختفائه وانتقل دور إقامة المعروف للقائمين بمسجد سيدي صالح.
 ويسمى المعروف بـ “تاعريفت” ويرتبط هذا بإدارة الوقف العائد له، حيث تسطر رزنامة طيلة شهر رمضان لإخراج قصعة طعام من طرف الأهل القائمين على المسجد تعرف باسم “تاعريفت”، وهي طعام الكسكسي بدون مرق خلال الخمسة عشرة الأولى من رمضان وفي الخمسة عشرة الثانية تكون مبللة قليلا ممتزجة بالسلق أو نبتة البندراق (السبانخ).
 يتم هذا في مسجد سيدي صالح، حيث يتجمع أطفال القصر قبيل أذان المغرب يترقبون وصول القصعة وبعد الانقضاء من صلاة المغرب يصطف الأطفال حاملين صحون صغيرة لينالوا حفنة من الطعام الكسكسي ويشرف على توزيعها القائم على المسجد، ثم يتفرق الأطفال إلى منازلهم، فمنهم من يأكل نصيبه وهو يمشي في الطريق ومنهم من يصل به إلى منزله ويشاركه إخوته الصغار وتبدأ هذه العادة من اليوم الأول من رمضان إلى آخر يوم منه.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024