منى دحومـان

التّـوابـل شغــف حوّلتــه إلى استثمـار مربــح

بورتريه: جمال الدين بوراس

 الثقــــة بالنفــس والإرادة سبيــل تحقيــق الذات

كانت روائحها بصمة فارقة في طفولتها التي عبقت ايامها بمختلف نكهات التوابل التي حافظت عائلتها على تحضيرها منزليا، منى دحومان، صاحبة مؤسّسة مصغّرة لصناعة التّوابل والبهارات بالجزائر العاصمة، حوّلت شغفها الكبير بالتّوابل إلى مُستثمِرةٍ ناجحة استطاعت في وقت وجيز تصدير منتجاتها إلى عدّة دول إفريقية وأوروبية.


 تنقل لكم «الشعب» تفاصيل تجربة رائدة لسيدة تصف نفسها بالمرأة المثابرة السائرة بخطى ثابتة رغم العثرات على طريق النّجاح، ليكون طموح تحقيق الذات قوتها الناعمة لتحويل الحلم الى حقيقة.  
البداية..
اول التجربة التي خاضتها دحومان، كانت الطفلة منى السابحة بين نكهات التوابل المختلفة عند تحضير والدتها لـ»العولة»، حيث قالت: «كان شغفي بالتّوابل والبهارات منذ الصّغر، فقد ولدت وترعرعت وسط عائلة تُولي اهتماما كبيرا لكل ما له علاقة بالمأكولات التّقليدية، كبرتُ وأنا أرى والدتي وجدّتي وكل نساء العائلة يُحضّرن التوابل والبهارات الخاصة بنا في البيت لاستعمالها في أطباقنا طوال السنة، نحن نسمّي التّوابل المعدّة في المنزل بـ «العولة»، هذه العادة السّنوية كانت بمثابة موروث عائلي، في ذلك الوقت كان شراء التّوابل والبهارات من الدكاكين يعتبرُ شيئاً غير مقبول بالنسبة لنا، كيف لا ونحن نستطيع إعدادها بأيدينا ووسائلنا».
« كنتُ أسعد صيفا بمساعدة نساء العائلة في طحن التوابل بـ «المهراس»، الذي كان وسيلة دق الفلفل الأحمر و»السانوج» والشعير وغيرها من المواد التي تُستعمل في إعداد الشوربة الرمضانية، كان البيت أثناءها يفوح برائحة هذه التوابل والبهارات التي نعدّها.
بعد سفري إلى بعض الدول الأوروبية زاد اهتمامي بالتّوابل فقد كانت لي فرصة زيارة قرية صغيرة تقع بين بلجيكا وأمستردام، اين التقيتُ بعائلات مغربية تعيش حياة تقليدية للغاية، كان نمط عيشها مغربياً أصيلا على أرض أوروبية. كانت تعتمد في طهي أطباقها على وصفات ومكوّنات تقليدية، وتجني قوت يومها ممّا تنتج من بهارات وخلطات توابل ومعجونات فواكه تقليدية محضّرة منزليا، بالرغم من بساطتها، كثيراً ما صادفتها في رفوف المتاجر وفضاءات التّسوّق الكبرى بتلك المنطقة، لكن الملفت ارتفاع سعرها مقارنة بالكثير من المنتجات الأوروبية المعروضة بجانبها، لقد ألهمتني تجربة هذه العائلات، وأكسبتني معارف وخبرات جديدة».
مرّت الأيام وشاءت الظّروف أن أمرّ بضائقة مالية، فكان لزاما عليّ الاعتماد على نفسي، فقرّرت تجسيد شغفي في مشروع يجمع بين ما هو تقليدي وعصري في آن واحد، فالتّوابل منتج مستهلك في كل المجتمعات والثّقافات، نجدها في كل بيت، في مطابخ العائلات البسيطة والثرية التي تتفاخر باقتناء أجود الأنواع من سفرياتها، من هنا بدأت فكرة مشروع سبقني إليه أجدادي بطرقهم التقليدية، لكنّني عملت على تطويره».
أول خطوة..
استطاعت منى تجاوز شغفها بالتوابل بالانتقال إلى تجسيده على أرض الواقع، حيث قالت لـ»الشعب»: «مكّنتني تراكمات المعارف والتّجارب، وكذا الأبحاث التي أجريتها حول التّوابل من إعداد أصناف ووصفات متنوّعة، ما دفعني في 2018، إلى التقدّم لوكالة دعم وتشغيل الشباب (أونساج كما كانت تسمى سابقا)، بخطّة عمل ودراسة جدوى لمشروعي، عرضت بهما فكرتي على لجنة دراسة المشاريع التي أعجبت بها، ووافقت على طلب استفادتي من العتاد وامتيازات الوكالة بعد استكمال كل الإجراءات الإدارية اللاّزمة.
انطلق مشروعي نهاية 2019، حيث نزل منتوجي مختلف الأسواق، لم يكن الأمر سهلاً خاصة بالنّسبة لي كامرأة، كوني بدأت دون فريق، فكنتُ المحاسبة والبائعة والحارسة والمديرة، عملت ليلا نهارا إلى أن تحسّنت ظروف المؤسّسة، ووظّفت عدداً من الشباب الذين تكفّلوا بمختلف العمليات.
مع بداية 2020، استطعت كسب بعض الزّبائن ممّن التقيتهم في معرضين بالجزائر، وكوّنت معهم علاقات عمل جيّدة، وبقي نشاطي سائرا حتى بعد ظهور فيروس كورونا، حيث لم يتأثّر بالجائحة بشكل بليغ، وشيئا فشيئا اقتحمت فضاءات جديدة لتسويق سلعتي.
لم تكن طبيعة العمل صعبة، بفضل تحكّمي في الوصفات والخلطات وسرعة اكتسابي مهارات إدارة فريق العمل، لكن التكاليف الباهظة للمادة الأولية أعاقت تقدّمي نوعاً ما، فاضطررت لشراء كميات صغيرة منها.
«لم تكن هذه المطبّات الوحيدة التي واجهتني، فالتّحدّي الحقيقي هو إقناع الزّبائن بجودة منتوجي، خاصة وأنا أعرضُ أنواعا جديدة من التوابل غير متوفّرة ولا معروفة في السوق الجزائرية، لكنّها تستعمل في أطباق عالمية شهيرة، فعلى سبيل المثال أعددتُ خلطات هندية ذات جودة عالية، لكنّها لم تستقطب اهتمام الزبائن، بسبب عدم اهتمام الجزائريّين بالأطعمة والأذواق الهندية، وتفضيل ما تعوّدوا عليه، فلجأتُ إلى تبسيط كيفيات استخدامها مع تسويقها بتسميات متداولة، حتى فاقت مبيعات المؤسّسة حالياً 2 طن من التّوابل شهرياً».
حلم يتوسّع
وعن تصدير منتوجاتها قالت منى: «دفعني عزوف الزّبائن عن الوصفات التي أعدّها إلى التفكير في التوجّه نحو أسواق خارجية، انتظرت الفرصة إلى أن التقيتُ بوكيل شحن اقترح عليّ الفكرة بعد أن أعجب بالمنتوج، وقمنا بأول عملية تصدير ناجحة نحو فرنسا نهاية 2020، ثم تلتها عمليات أخرى، وبعد أشهر تلقيتُ طلبات من أنغولا وأخرى من السعودية ومصر.
الكثير من الأجانب الذين عاينوا المنتوج أعجبوا به وسعوا إلى الحصول عليه، لكن الإشكال في الإمكانيات المحدودة، فالمؤسّسة لا تستطيع تحضير طلبيات وتجهيزها ثم تصديرها في وقت وجيز.
يمكنني القول اليوم إنّ تجربة التّصدير شكّلت تحوّلاً حاسماً في مساري كصاحبة مؤسّسة صغيرة، فبعدما كنت أسعى بجهد جهيد لكسب بعض الزّبائن في السوق المحلية، أصبح شغلي منصبّاً على تلبية طلبيات باتت تفوق قدرتي الإنتاجية».
بعيدا عن المستحيل
عن طموحاتها المستقبلية قالت منى «بعد كل هذا العمل والأشواط التي قطعتها في مشوار المقاولاتية، أطمح اليوم للارتقاء أكثر بأفكاري، فأنا أسعى إلى توسيع مشروعي وجعله أكبر، بدءاً برفع القدرة الإنتاجية، وصولاً إلى خدمات التّعليب والتوزيع المكلّفة، والمراد هو اكتساب الاستقلالية والقدرة على تسيير العمليات التجارية اعتماداً على إمكانيات وموارد المؤسّسة».
وأضافت: «أعتمد اليوم على وكيل شحن لإيصال منتوجي إلى الزّبائن والمتعاملين الأجانب، لكنّني أطمح إلى تصدير ما أنتج، وكذا استيراد ما أحتاج من مواد أولية بنفسي، بغية تقليل أعباء اقتنائها من الموردين المحليّين، الذين يبيعونها بهوامش فائدة كبيرة مقارنة بالأسعار المتداولة في الأسواق الدولية، فالجزء الأكبر من المادة الأولية مستورد من الخارج.
أما فيما يتعلق بالمواد الأولية، قالت منى: «صحيح أنّ الكثير من أنواع النّباتات التي تستخلص منها المواد الأولية غير متوفّرة في بلادنا، لكن زراعتها وإنتاجها على أرضنا بات ممكناً اليوم، حتى بالنسبة لتلك التي لا تتلاءم مع مناخ الجزائر، فالتكنولوجيات والتقنيات الزّراعية الحديثة قادرة على فعل ما لا نتصوّره، وقد رأينا بعض التّجارب النّاجحة في زراعة الزعفران في ولايتي باتنة والجلفة، وهو يعتبر من أكثر التوابل غلاءً، وهذا ما أطمح إليه، أي تمويل نشاط المؤسّسة بما تنتج أرض بلادي، مع إمكانية توفير فرص عمل للنساء الماكثات في البيت عن طريق إنجاز بعض الأعمال لصالح مؤسّستي كتجفيف التوابل».
قد يكون التصدير سبيلاً تجاريا مربحاً، وأنا أعمل لكي يصل منتوج المؤسّسة إلى الأسواق المصرية، التونسية، والموريتانية والإفريقية عامة وكذا الأوروبية، مع التعويل على منافسة التوابل المغربية في بلادها، لكن الهدف الذي أحرص على تحقيقه في الداخل هو التّوسّع أكثر في السوق المحلية والوصول إلى بيوت كل الجزائريّين، حتى وإن كان العائد التجاري ضئيلاً.
سبيل النجاح
عن تجربتها في شق طريق النجاح، قالت منى «من خلال تجربتي المتواضعة، أقول لكل الشباب الطّموح أنّ الثّقة في النّفس هو سبيل النّجاح، فمهما كان المستوى التّعليمي المحصّل، فالأكيد أنّ لكلّ منّا شعلة إبداع تنتظر إيقادها مهما كانت الظّروف والامكانيات، فالنّجاح يحتاج جهداً، وعملا حثيثاً، ولِنتيقّن أنّ كل فكرة خلاّقة قابلة للتّحوّل إلى مشروع، وكل مشروع ستقابله عقبات، ما نحتاجه لنصل إلى مبتغانا هو المثابرة والإصرار».
(عن مجلة «الشعب الاقتصادي» بتصرف)

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024