مواقد الحطب تزيد يوميات الناس تعقيدا

أنفاس سكان رأس العين بمعسكر تحت رحمة الفحم

استطلاع: أم الخير- س

في بلدية رأس العين بولاية معسكر، تتميّز خمس قرى بصناعة الفحم «الفاخر»، التي تساهم بدورها في تشغيل 80 % من سكان هذه المنطقة، وبحسب رئيس جمعية منتجي الفحم، محمد بورزين، فإنّ ما يزيد عدده عن 800 عامل يشتغل بمواقد الفحم المنتشرة بأعداد هائلة في إقليم بلدية رأس العين عميروش، حيث توارث هؤلاء السكان نشاط إنتاج الفحم منذ عقود من الزمن، ولا يزال نشاطهم مستمرّا رغم الدّعوات والشّكاوى المناهضة لهذا النّشاط.

الوصول إلى قرى بلدية رأس العين عميروش بولاية معسكر، هو من أصعب المهام الميدانية للصّحفي على الإطلاق، حتى أصبح التقاط صور لمواقد الفحم من تطبيق غوغل أسهل من الاقتراب منها.
تبدو مواقد الفحم المنتشرة بإقليم بلدية رأس العين عميروش - من تطبيق «غوغل إرث» - في شكل أعشاش ضخمة دائرية الشّكل، منتشرة بشكل كبير في حدود التّجمّعات السّكنية الرّيفية التابعة لبلدية رأس العين عميروش (قارون، أهل قادة، القلانزة، الغفافرة)، وغيرها من القرى التي ظلّت أنفاسها تحت رحمة منتجي الفحم الفاخر.
ويدقّ سكان هذه القرى ناقوس الخطر، نتيجة تنامي نشاط إنتاج الفحم الذي ألحق أضرارا بالغة الخطورة على الإنسان، الحيوان والنبات، في شكل شكاوى كثيرة للسّلطات المحلية دون جدوى.
ويشكّل الدخان والرّوائح الحادّة وسحب الحرائق التي تغطّي السّماء بشكل يومي، الصّورة العامة للمنطقة لاسيما ليلا لمّا تتم تهوية مواقد الحطب، ما يحرم نحو 5 آلاف نسمة من سكان دواوير القلانزة، أهل امحمد، الغفافرة، أهل العيد، أهل القادة، أهل الصديق وسيدي بوعجمي من الهواء النّقي، وتسبّب لهم أمراضا تنفّسية وأعراض مرضية أخرى خطيرة.
شكوى السكان ومخاوفهم من تأزّم الوضع البيئي والصحي يعبّرون عنها خفية، تجنّبا لأي مشاكل ومواجهات بين السكان المتضرّرين وجيرانهم المنتجين للفحم، ويتقاسمها معهم حتى بعض المنتجين الذين انضووا تحت لواء جمعية محلية لمنتجي الخشب والفلين، للدّفاع عن هذه المهنة.
يقول محمد مواطن من قرية القلانزة لمجلة «التنمية المحلية»: «أصبح العيش في المنطقة لا يطاق، مواقد الفحم تحيط ببيوتنا وتسبّبت في أمراض لأبنائنا، وأي شكوى ضد هؤلاء المنتجين للفحم تقابل بالصّمت من قبل مصالح البلدية بل تتسبّب لنا في مشاكل وصدامات مع جيراننا المنتجين للفحم».
كما يتساءل سعيد أحد سكان قرية أهل امحمد عن سرّ الصّمت المطبّق على تنامي هذا النشاط المضر للبيئة ولصحة الإنسان، يقول في حديثه، إنّ إنتاج الفحم أصبح يدر أرباحا طائلة على ممارسي هذا النّشاط.
عمالة الأطفال أوجه الآخر
أخبرنا سعيد أيضا أنّ شباب المنطقة يواجهون مشكل البطالة، ولا رغبة لهم في ترك هذا النشاط المدر للمال والمضر للصحة، مشيرا إلى أنّ أصحاب مواقد الفحم يستغلون القصّر والشباب العاطل عن العمل في هذا النّشاط مقابل ما قيمته 8 آلاف إلى 10 آلاف دينار لكل موقد فحم، في حين يتلقّى القصّر مبلغ 1500 دج، وهي ثروة بالنّسبة لطفل لا يتعدى عمره 14 سنة في المنطقة، موضّحا أيضا أنّ مواقد الحطب تستمر في الاحتراق لثلاثة أيام متتالية، بمعنى أنّ الشباب المستخدمين في هذا النّشاط يتقاضون القيمة المالية كل ثلاثة أيام.
في حين ينتج موقد الفحم الواحد العشرات إلى المئات من الأكياس حسب كمية الحطب المحترقة، وتباع أكياس الفحم بألف دينار على الأقل للكيس الواحد لأصحاب المطاعم ومحلات الشواء بالجهة الغربية للبلاد، لافتا في حديثه أنّ هناك شباب يشتغلون أيضا في جمع الحطب من الغابات، وأحيانا تكون أشجار الزينة على الطرقات وفي الحدائق ضحية لطمعهم.
مع استفحال نشاط إنتاج الفحم بقرى بلدية رأس العين عميروش، ظهرت إلى العلن حركات احتجاجية أثارها السكان المتضرّرون من نشاط إنتاج الفحم وانبعاثاته السامة الملوّثة للهواء، حيث لم يرق نشاط إنتاج الفحم في هذه المنطقة إلى مصاف الإنتاج العصري والسليم، ولم يرتق لنشاط إنتاجي يتماشى مع تطلّعات السّاكنة والاحتياجات الاقتصادية للبلاد ليساهم ولو بحد أدنى في مداخيل الميزانية البلدية الناتجة عن الجباية.
 وتشير آراء السكان أنّ هذا النشاط خرج عن سيطرة السلطات العمومية، التي عجزت عن تأطيره، في ظلّ المنافسة الشّديدة بين المنتجين الناشط أغلبهم بطريقة غير شرعية.
جمعية محليّـة للدّفاع عن شرعية النّـشاط
أمام تهديدات وقف نشاط إنتاج الفحم، تأسّست جمعية «منتجي الفحم» يترأّسها محمد زردين، للدفاع عن المهنة التي تعتبر مصدر رزق لآلاف العائلات حتى تلك التي تشكو تضرّر المحيط البيئي نتيجة هذا النشاط، مثلما قال رئيس الجمعية.
رئيس جمعية منتجي الفحم بورزين محمد، أشار في حديثه المقتضب - الذي امتنع فيه عن تقديم أرقام واضحة عن حجم الأرباح التي يدرّها نشاط إنتاج الفحم - أنّ بلدية رأس العين عميروش بولاية معسكر، تحتل الرّيادة الوطنية في هذا المجال، وتسوّق منتوجها إلى كافة ولايات الوطن، بما فيها ولاية عين الدفلى التي يتّجه منها الفحم الفاخر إلى التّصدير لدول الخليج، بعد إضافة بعض التّعديلات على المنتوج الأصلي التي لا تخرج عن نطاق التّغليف والتسمية.
نفس المتحدّث، أكّد أن أتعاب إنتاج الفحم تفوق مداخيله، التي تحسب تقليديا بعدد الأكياس المعبّأة وليس بالوزن، ويصل سعر الكيس الواحد إلى 1200 دج، في حين تصل فائدة المنتج إلى 100 ألف دج عن كل شحنة كبيرة، وتقل قيمة الفوائد بحسب حجم الشّحنة المعبّأة في المركبات الصغيرة.
وقال «بالتأكيد أن المنتفع الأكبر من النشاط هم المتعاملين في مجال التصدير وليس أولئك المنتجين البسطاء، الذين توارثوا النشاط أبا عن جد منذ نحو 80 سنة، أو حتى عمالهم البؤساء الذين يتعرضون إلى مختلف الأخطار والأمراض نتيجة قربهم المباشر من الأفران والمواقد التقليدية للفحم، بمن فيهم الأطفال الذين يستغلّهم بعض المنتجين في جمع الحطب وحرقه في المواقد».
ومن باب تسليط الضّوء على نشاط إنتاج الفحم من وجهة نظر المنتجين أنفسهم، لم ينف محدّثنا حجم الضّرر الذي لحق بالسكان نتيجة تنامي النّشاط، مؤكّدا أنّ جمعية المنتجين تأسّست للدّفاع عن هذه المهنة التي كادت تتوقف بفعل شكاوى السكان قبل سنتين، الأمر الذي يهدّد - حسبه - مصدر رزق المئات من العائلات التي تقتات من نشاط إنتاج الفحم.
ويوضّح محمد بورزين، أنّ النشاط لا يدر أرباحا طائلة كما يشاع في شكاوى بعض السكان، وإن كان في الحقيقة يؤثّر سلباً على البيئة وحياة السكان والعاملين فيه، الذين لقي عناصر منهم مصرعهم في مواقد الفحم نتيجة الخطر المحيط بهذه المهنة، التي تسجّل نحو 20 منتجا بطريقة قانونية والعشرات من المنتجين بطريقة عشوائية رفضوا دعوة الجمعية للانخراط في مساعيها لتأطير نشاط إنتاج الفحم، من خلال التّوجّه نحو عصرنته واستخدام أفران آلية لحرق الحطب بدل المواقد التّقليدية في شكل حفر تمتد على هكتارات من الأراضي الفلاحية.
عن نشاط إنتاج الفحم الفاخر برأس العين عميروش، قال رئيس البلدية بحري بكاي، إنّه نشاط احترفته العائلات منذ وقت بعيد، وزاد رواجه في السّنوات الأخيرة مقابل استنكار للسكان المتضرّرين من التلوث البيئي الذي يحدثه تنامي النّشاط.
ويشير نفس المسؤول، إلى أنّ السّلطات العمومية تدخّلت لتقنين نشاط منتجي الفحم من خلال تشجيعهم على تقييد نشاط صناعة الفحم بسجل تجاري، ودعت المنتجين إلى تطوير إنتاجهم بما يسمح بالحفاظ على البيئة وصحة السكان، ما دام كل القرى المعنية بهذا النشاط قد استفادت من مشاريع للرّبط بالغاز الطبيعي، دون أن يعلن عن مساهمات نشاط إنتاج الفحم في مداخيل البلدية رغم انتعاشه، وعلى الأغلب فإنّ نشاط إنتاج الفحم في بلدية رأس العين عميروش لا يخرج عن الدائرة المغلقة (جمع الحطب، حرقه وبيعه) دون أن يمر بأي إجراء أو معاملة إدارية عدا تلك التي تفرضها إجراءات بيع الخشب في المزاد العلني.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024