ذاكرة مكان

جولـة في «المحروسـة بالله» القــرن 18

كانت مدينة الجزائر في تلك الحقبة من القرن 18م مجسَّمًا صغيرًا لاختلاط الشعوب والأعراق والقبائل والانصهار فيما بينها في دولة واحدة تتسع لكل من يخدمها، متعدّدة الثقافات والألسنة ضِمْن قواعد جامِعة تُؤطِّرها الثقافة العربية الإسلامية.
وأنت تتجوَّل حينها في السوق الكبيرة بين شارعي باب الوادي وباب عزون أو ترتشف قهوة في «القهوة الكبيرة» بمحاذاة «الجامع الجديد» والقريبة أيضا من «الجامع الكبير»، حيث «ساحة الشهداء» الحالية، تُصادِف اليوناني، والقبرصي، والكْرِيتِي أو الكْرِيتْلِي، والتركي الإزمِيرْلي والبُورْصَالِي والقازْدَاغْلِي والرُّومِيلي، والإيطالي الجِنوي والنَّابُولِيتَانِي والتُّوسْكاني كالرَّايَسْ علي بِتْشِينْ والبُندُقِي أو الفِينِيزِّي كالحاج حَسَان فِينِيزّْياَنُو، والمَالْطِي، والإسباني، والبرتغالي كمحمد العُلْج البُرْتَقِّيزِي الذي أعْتَقَهُ من الأسْر الدّاي عَبْدِي باشا في ثلاثينيات القرن 18م مِثلما تَكَرَّمَ أيضا على الإيطالي رمضان العُلْج النَّبُلِيطَان (Napolitain من نَابُولِي) وحَسَن العُلْج الإسطنْبولي مُوقِفًا عليهم وعلى عائلاتهم عقَّارات تَضْمَنُ رزقَهم، والفرنسي، والجورْجي، والألْمَاني، والرُّوسي، والفايْكِينْغْ القادِم من إسكندِينَافْيَا، وكل خَلْق الله من مُختلف بقاع العالم.
مِثلما تلتقي في هذه الأسواق، كَسُوق السّمن وسوق الكَتَّان وسوق الحَاشْيَة وسوق القْبَايَل، والسُّوِيقَات كَسْوِيقَة عَمُّورْ وسْوِيقَةْ باب الوادي وحْوَانِيتْ سيدي عبد الله وحْوَانِيتْ بن رَابْحَة، القريبة من حومة السُّورْ والسّْطَارَة (سُوسْطَارَة)، وفي مختلف الشوارع والحومات في «المحروسة بالله»، جزائر سيدي عبد الرحمن الثعالبي وسيدي أحمد بن عبد الله الزواوي وسيدي علي الفاسي، كُلاًّ مِن الشَّامي، والبَغدادي، والطّرابلسي اللِّيبي، والتّونسي الجَرْبِي والقيرواني والصّْفاقصِي، والمغرِبي الفاسِي والمرَّاكشي والسّلاوي، والمصْري، والإفريقي القادِم من مالِي والنِّيجر والسِّينغال...
وما كان في هذا الأمر أيُّ غرابة أو عَجَب، بل عاش الكُلّ مع الكُلّ مِن أهل البلاد الأسْبق تاريخيًا على هذه الأرض من عرب وبربر وأندلسيين وأفارقه سود وغيرهم. واندمجوا معهم، وأصبحوا هم أيضا من أهلها بالعيش بها لأجيال، في وئامٍ وانسجام وتبادل الاحترام. ونجحوا جميعاً، كُلٌّ من مَوقعه، في إقامة دولة مزدهرة، قوية مهابة ومُحترَمة على مدى أكثر من 3 قرون...
في هذه المدينة الفسيفيسائية الغنية وشديدة الحيوية الاقتصادية، كان بالإمكان أن تشاهد من مظاهر التنوع والتعدُّد والانفتاح بِمُنْتَهَى الانسِجام مَرْزُوق بن قاسِم الجَرْبِي التونسي البَرْبُوشِي سنة 1742م يَعقد صفقةَ شراء دار قريبة من جامع خُضر باشا في «الوطأة»، «القصبة السفلى»، من الإنكشاري العثماني حَسَن يُلْدَاشْ، وعُمَر الجَرْبِي بن قاسم بِمعية نَفُوسَة بنت أحمد التّونسي يَبيعان نصيبَهما من دارٍ سنة 1783م بحومة بن جَاوَرْ (Gawer) عْلِي للانكشاري المُتقاعِد عثمان الانْكشاري منزول آغا.
في تلك الحقبة من القرن 18م في محروسة سيدي الثعالبي عبد الرحمن، يُمكنك أيضا أن تُصادف الحاج موهوب البِجائي، بعد تردُّده على سوق القْبَايَلْ بمحاذاة باب عزون، على موعدٍ مع زبونٍ ليبيعه جَنّة بِفَحْصِ بني مَسُّوسْ، أو علي بن محمد البِجائِي يَبيع في سنة 1790م مَحلاًّ لِحِرْفَةِ المَقْفُولْجِيَة بِمُحاذاةِ حَمَّام السّْبوعَة، وسعيد البِجائِي الشَّمَّاع يَشتري جَنَّةً بِفحص سيدي مَجْبَر بِبُوزَرِّيعَة من الانكشاري الأُوضَه بَاشِي العثماني محمد بن حسين بن مَصًلِّي، أو رجب بن سعيد البجائي يَعقد مع الانكشاري الحاج والِي بُلُوكْ باشي(Buluk    Bachi) بن حسين صفقة ليشتري منه دارا في أفخم حومات المدينة مُقابِلة لِدار السِّكَّة، مؤسسة إصدار النُّقود، وقريبة مِن مَقَرِّ الحُكْم المعروف بـ: «قصر الجُنَيْنَة» أو «دار الإمارة»...
هكذا كانت مدينة الجزائر في القرن 18م، وهكذا عاش فيها أهلُها بِتنوُّعهم وتَعدُّدهم وكُلُّ مَن اختار الإقامة بينهم بحثا عن نصيبه من الدفء وأشعة الشمس... لستُ مَن اخترع هذه الأسماء والأماكن والتواريخ واللقاءات للتبادل والتداول على الأرزاق.. إنها وثائق الأرشيف التي تجدونها في المركز الوطني للأرشيف ببئر الخادم في «بهجة» سيدي عبد الرحمن..

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024