الأسرة في زمن التّحدّيات المعاصرة

الأسرة هي المدرسة الأولى التي ينشأ فيها الطفل ويتعلم فيها المبادئ الأولى للحياة، وتُنمي لديه مختلف الاتجاهات الأساسية نحو الحياة إيجابا أو سلبا، لذلك حظيت بالاهتمام والرعاية من قبل كل المجتمعات لدورها الاستراتيجي في بناء شخصية الفرد وفق قيم ومقومات مجتمعه وتحصينه من كل الانحرافات والاضطرابات التي قد تعيق نموه وتطوّر شخصيته.

ا - د خالد عبد السلام

أصبحت أدوار الأسرة اليوم أكثر تعقيدا عما كانت عليه من قبل، لوجود عناصر دخيلة ضمن تركيبتها تساهم بشكل مباشرة وبصفة غير مباشرة في منافستها في عملية التربية والتوجيه والتكوين للأبناء، لا سيما تكنولوجيات والاتصال المعاصرة كالهاتف النقال، الأنترنت والتلفزيون والألعاب الالكترونية وغيرها، حيث أصبحت عناصر أساسية في تركيبة الأسرة، لا يمكن الاستغناء عنها، بل كثيرا ما يؤدّي فقدانها أو تعطّلها أو نقص أحد منها إلى إحداث خلل واضطراب داخل الأسرة، كما أن وجودها كعناصر أساسية بينها كثيرا ما أثّر سلبا على تفاعل أفرادها وعلى أدوار الأسرة التربوية، فأصبحت سببا في تشتّت أفراد الأسرة الواحدة في الشقة الواحدة، وتمنعهم من التواصل والتفاعل فيما بينهم، ذلك انها وسائل تستقطب وتستهوي تطبيقاتها وبرامجها أفرادها أكثر من أي عنصر بشري آخر لما توفّره من ترفيه ومتعة نفسية ومعرفية لمستخدميها، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، نلاحظ أنّ كثيرا من إن لم نقل أغلبية الأسر تتعمّد توظيف هذه التكنولوجيات كوسيلة لإشغال أبنائها وتعريضها لها لتهدئتهم والتخفيف عن اضطراباتهم وقلقهم، وكذا ضبط سلوكياتهم وحركاتهم المزعجة داخل البيت.
من هنا نستخلص أنّ التفكير في كيفية تفعيل أدوار الأسرة الاستراتيجية في تربية وإعداد الأجيال لمتطلّبات الحياة المستقبلية أصبح أكثر من ضرورة من أجل مسايرتها للمستجدات ومواجهتها لمختلف التحديات، وبالتالي التكيف مع متطلبات العصر.

الحوار...أوّل خطوة
 من أهم الأسس التي ينبغي أن تنبني عليها الأسرة لتؤدّي أدوارها الاستراتيجية في بناء شخصية الطفل وإعداده للمستقبل هي اعتماد مبدأ الحوار في عملية التواصل، والتفاعل فيما بينها لتنمية منطق الاقناع بالأفكار والحجج والبراهين بدل منطق القوة والعنف، وتنمية القدرة على التفكير النقدي، الابتكاري لدى الأبناء.
ومن خلالها تتعزّز الثقة في أنفسهم وتتطوّر مشاعر الانتماء للأسرة لديهم أكثر فأكثر بإشباع حاجاتهم للمحبة، التقدير والمكانة، فكلّما شعر الأطفال بأنّ أصواتهم مسموعة وأفكارهم مقبولة وآراءهم مهمة، كلما شعروا بالاطمئنان والأمان داخل بيوتهم. ما يجعلهم يتدرّبون على ضبط النفس، الهدوء والرزانة وعدم الاندفاع والتهور في التصرف.
كما أنّ مبدأ الحوار يجعل الأسرة بمثابة برلمان مصغّر يتدرّب فيه الطفل على النقاش المسؤول الهادئ والهادف، ليتعلّم من كيفية الاقناع والدفاع عن آرائه وقناعاته كما يتعلم ثقافة المواطنة، وثقافة الديمقراطية وقيم الاختلاف والتنوع وقبول الرأي الآخر.

الاستثمار الإيجابي للوقت
 والأساس الثاني هو التنظيم لعمل الأبناء بين الدراسة المطالعة، المراجعة، الرياضة والألعاب والترفيه، باستثمار أوقاتهم بكيفية عقلانية ومفيدة، حتى لا ينجروا إلى عادات سلوكية سلبية، كالإدمان الالكتروني، الإهمال الدراسي، وبالتالي لا يصابوا بالقلق، التوتر والضغوط الدراسية التي تشعرهم بالملل فيضعف دافعيتهم للتعلم والدراسة.
كما تجدر الإشارة إلى أهمية تعزيز مبدأ الاعتماد على النفس لدى الأطفال لأنّهم خلقوا ليكونوا مستقلين عن الوالدين وغيرهم، ويتعلّمون الاعتماد على أنفسهم في تدبير شؤون حياتهم بإمكانياتهم وقدراتهم وذكائهم الخاص، وأخص بالذكر هنا تدريب الأطفال على البحث عن الدروس، التمارين، ونماذج الاختبارات وحلها بأنفسهم، ومساءلة الأساتذة ومناقشتهم بأنفسهم أيضا وليس بوسطاء أو بالاعتماد على والديهم والنيابة عنه في كل ذلك. عندها سيتحرّرون من العبودية النفسية، ومن كل مظاهر الإعاقة في شخصيتهم التي قد تجعلهم لا يستطيعون مواجهة تحديات ومشكلات الحياة بأنفسهم لا سيما مواجهة متطلبات النجاح الدراسي المهني والاجتماعي.                
يضاف إليها مبدأ التدريب على روح المسؤولية لدى الأبناء، بتكليفهم وتشجيعهم على القيام بمهام وأدوار معينة داخل البيت، والتي تبدأ بتنظيم وتنظيف غرف نومهم بأنفسهم، والمساعدة في قضاء شؤون البيت ومشاورتهم في قضايا الأسرة وغيرها، عندها ستتعزّز المشاعر الإيجابية لدى الأطفال وتنمو قدراتهم على تحمل المسؤولية والاعتماد على الذات، وبالتالي تزداد ثقتهم بأنفسهم وهو أحد مفاتيح النجاح في الحياة.

المتابعة والمرافقة...
 يجدر التنويه بأهمية مبدأ المتابعة والمرافقة للأطفال في مختلف مراحل حياتهم الطفولية والدراسية بتوجيههم ونصحهم ومناقشتهم، وخاصة الاستماع الى اهتماماتهم وانشغالاتهم ومطالبهم مع تحفيزهم، تشجيعهم ومكافأتهم عند كل نجاح أو انجاز مهما كان بسيطا، مع تجنب كل أشكال الاحتقار، الإهانة، الاستهزاء، والتهديد والوعيد للأطفال داخل الأسرة وفي المدرسة، وفي كل مكان مهما كانت الأسباب والاخطاء لأنها سلوكيات ومواقف تغذي الروح الانهزامية، المخاوف المرضية، والشك في القدرات الذاتية، كما تنمي عقدة النقص لديهم، والتي منها يتسرب اليأس والاستسلام امام أبسط التحديات الدراسية والحياتية التي قد تواجههم في المستقبل، وخاصة في الامتحانات الدراسية.
ولا ننسى هنا أهمية التركيز على مبدأ تدريب الأبناء على التفكير الإيجابي، والاستخدام الإيجابي للتكنولوجيات المعاصرة، بدل الاستجابات السلبية بالمنع والقمع. علّم أبناءك استخدام هذه التكنولوجيات في المطالعة للمقالات، متابعة الدروس عبر الخط أو عبر اليوتيوب وغيرها، البحث المرجعي، البحث عن نماذج من الاختبارات وحلها بأنفسهم دور حفظ الحلول الجاهزة لأن حفظ الحلول الجاهزة بدل حلها كما هو معمول لدى الكثير من الاطفال ينمي لديهم النمطية والسذاجة في التفكير، وتعطل نشاطهم الذهني وتضعف ذكاءاتهم المختلفة.
هي مجموعة من الأسس والقواعد التي نعتقد أن أبناءنا في حاجة الى تنميتها لديهم حتى يكونوا معدين أحسن إعداد للغد الذي يتطلب منهم الثقة في النفس، الاعتماد على الذات، الشجاعة، الرزانة، الذكاء، القدرة على الابتكار والابداع للحلول والمقاربات لمختلف المشكلات الدراسية والحياتية.
علما أنّ هناك الكثير من القواعد والأسس الأخرى التي لا يسع المقام للتطرق إليها ومعالجتها جميعا بكل تفاصيلها، إنما طرحنا هذه الأفكار التي أراها جوهرية في بناء شخصية الطفل من أجل خلق الحيرة لدى القراء، وإثارة المناقشة والتفكير جماعيا حول ما يجب أن تكون عليه الأسرة في ظل التحديات المعاصرة.

  أستاذ باحث في علم النفس وعلوم التربية بجامعة محمد لمين دباغين سطيف 2

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024