تجــارب ناجحــة

أيـاد ذهبية تحوّل النّـفايـات إلى تحـف فنيّــة

موسى دباب

من يشاهد اللّوحات الفنية والمزهريات المزخرفة المعروضة في دار البيئة بمدينة بشار، والمعروضة أيضا في أحد شوارع المدينة، لا يخطر بباله أبدا أنّها مصنوعة من النّفايات، لكن الحقيقة هي أنّ عبد القادر بلهداجي استطاع أن يفعل ذلك بلمساته الفنية بينما هو يمارس مجموعة من نشاطاته التّطوعية.
حوّلت شارع الحي الذي يقطنه أشبه بمعرض للتّحف الإبداعية واللّوحات الفنية مفتوح لكل من يزور هذا الحي، الذي تمّ فيه تصوير مشاهد لأحد الأفلام أنجزه مجموعة من شباب ولاية بشار عرض على اليوتيوب.
موهبة جديدة
يروي بلهداجي بدايته مع هذه الموهبة قائلا: «كانت بدايتي صدفة، ولأنّني أشتغل بعيدا عن أسرتي في مؤسّسة لأشغال الآبار بحاسي مسعود، كنت دائما أحب أن أقضي معظم وقتي في البيت مع العائلة، وبقيت أستغل هذا الوقت في ممارسة بعض الأنشطة التّطوّعية الخيرية كمتنفّس لي مثل غرس الأشجار في بعض أحياء المدينة، وصنعت في أحد الأيام لوحة فنية صغيرة من نفايات مادة «لاريزين» استحسنها أولادي، ثم قمتُ بصنع لوحة أخرى من نفس المادة، فلقيت هي أيضا إعجاب أقاربي وبعض أصدقائي واصلتُ هذا العمل وفي كل مرة كنت ألقى التشجيع، وكان لي بعض الأصدقاء لديهم محلات ديكور أصبحوا يحتفظون لي بما يتبقّى من مادة لاريزين، ومن بين هؤلاء الأصدقاء جار لي يدعى عبد المجيد صالحي».
ليست بقايا نفايات مصانع «لاريزين» فقط التي يستغلّها هذا الفنان في أعماله الإبداعية، وإنما حتى نفايات وبقايا الحطب وإطارات العجلات المطاطية صنع منها طاولات، آرائك، كراسي، حاملات ستائر ولوازم أخرى من الأثاث المنزلي، وأنجز أيضا لوحات ذات طابع صحراوي، ومن إطارات العجلات مزهريات.
كما شارك بلهداجي بإبداعاته في عدّة معارض لاقت استحسان المواطنين والمسؤولين وطنيا ومحليا، وتمّ تكريمه بعدّة شهادات نظير جهوده في التخفيف من حدة النفايات التي تؤثّر على البيئة عبر تحويلها إلى أعمال إبداعية ساهمت في تزيين الشّوارع والحدائق.
يقول بلهداجي لمجلة «التنمية المحلية»: الآن لديّ حوالي عشر سنوات وأنا أمارس هذه الهواية، انطلاقا من نشر الوعي للحد من النّفايات التي تهدّد البيئة، ورسالتي هي ضرورة استغلال هذه النّفايات نظرا لخطورتها على الطبيعة، بل حتى على حياة الأجيال القادمة، على اعتبار أنّ مادة «لاريزين» مثلا تحتوي على عدّة مواد لا تتحلّل إلا بعد خمسة أو ستة قرون من الزمن، وقد تتسرب إلى المياه الجوفية وتلوّثها ما قد يسبب الضرر للناس، فلذلك أعتبر دائما أن هذا العمل خيري، ويدخل في إماطة الأذى عن الطريق».
ويطالب بلهداجي بضرورة التّفكير في استثمار نفايات الحطب «البلاتلاج» الموجود بكثرة ومادة «لاريزين»، على اعتبار أنّه لا توجد مصانع لتكريرها واستغلالها في عدة مجالات فنية وإبداعية، وأشياء أخرى صديقة للبيئة.
لوحات فنية تحمي البيئة
يعتبر لروي مراد، رئيس مصلحة البيئة الحضرية والصّناعية، ما قام به الفنان التّشكيلي بلهداجي عملا يدخل ضمن مجال تثمين النّفايات، من خلال جمعها وتحويلها إلى لوحات فنية تحقّق أرباحا مالية، عوض صرف مبالغ كبيرة من أجل التّخلّص منها.
وتابع المتحدّث، بلهداجي يحوّل هذه النّفايات الخطيرة إلى لوحات رائعة، وأعماله هذه تدخل في الإطار الرئيسي لإستراتيجية وزارة البيئة التي وضعت المخطط الوطني لتسيير النّفايات آفاق 2035، لأنّ التّوجّه الرّئيسي لوزارة البيئة من خلال هذه الإستراتيجية هو الاقتصاد الدّائري، الذي هو عبارة عن دورة حياة للمنتجات، بمعنى إعطاء حياة أخرى للمنتوج، لأنّ حرق نفايات مادة «لاريزين» على سبيل المثال يشكّل سُحبا من الدخان السام ممّا ينتج عنه أضرار.
أمّا عن مادة «لاريزين» ـ يقول رئيس مصلحة البيئة الحضرية الصّناعية لروي مراد ـ هي عبارة عن مادّة كيميائية وما يتبقّى منها من نفايات بعد الاستعمال، تصبح نفايات خاصة، وخاصة خطيرة لأنّ تركيبتها تتكوّن من مواد كيميائية، وإذا كان تصنيفنا للنّفايات هو وجود نفايات عادية منزلية، ونفايات أخرى خاصة وخاصة خطيرة، وهذا ما نركّز عليه والخطر يكمن في المخلّفات التي تحتوي على مواد كيميائية، وليس في نفايات مخلّفات الطعام.
ويؤكّد لروي أنّ مادة «لاريزين» تحتوي على مواد كيميائية يستغرق تحلّلها في الطّبيعة مئات السّنين، فعند تحلّلها في التّربة تتسرّب مع مياه الأمطار عدّة مواد سامّة إلى المياه الجوفية ممّا يشكّل خطرا كبيرا جدا على صحة الناس والبيئة.
ومن هذا الإطار لدينا خياران، الأول هو أن نحاول حرق هذه المواد الخاصة بطرق تكنولوجية، وهذا غير متاح حاليا، حيث لا توجد مثل هذه المحارق المتخصّصة ببلادنا، لذلك لا نلجأ إلى الحرق وإنما إلى تشجيع تثمين النّفايات بإعادة استعمالها عوض صرف مبالغ كبيرة في التّخلّص منها عن طريق الحرق، وقد استطاع بلهداجي تخليصنا منها بطريقة إبداعية، جعلتنا نضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.
طريقة جديدة لتنظيم المعارض
شاركت اللّوحات المصنوعة من مادة «لاريزين» في عدّة معارض، وتمّ عرضها في دار البيئة بولاية بشار، وعن هذا يقول مدير دار البيئة، خليف محمد سفيان، إنّه «منذ لقائنا بعبد القادر بلهداجي وتقرّبه من دار البيئة وعرض أعماله وتحفه، استحسنا هذه المبادرة التي كانت تمس الجانب البيئي بشكل مباشر، ورأينا فيها الجانب التّحسيسي للمجتمع من أجل جمع هذه النّفايات التي تطرح في محيطنا البيئي، والتي كانت تمس بالبيئة، كل هذا جعلنا نرى في هذه اللّوحات جانبا تحسيسيا، لهذا قمنا بتنظيم معرض على مستوى الدار».
أمّا حسني جيلالي، مساعد مدير الدار، فقد أوضح أنّ نشر ثقافة الرّسكلة هي الخطوة الأولى للحديث عن التّنمية المستدامة، على اعتبار أنّ هذه الأخيرة تهدف إلى المحافظة على الموارد الطّبيعية للكرة الأرضية حتى تشمل الأجيال القادمة، ونحن كمهتمّين بالبيئة أسعدنا كثيرا ما قام به بلهداجي، حيث ساعدتنا أعماله في نشر الوعي، وهذه التّقنية لديها قيمة قد تؤثّر في الأجيال القادمة وتجعلهم يهتمون بها.
 مضيفا أنّ الأعمال الفنية تحتاج في بعض المرات إلى تغيير في ذهنيات المجتمع، وهذا النوع من الفن لم يكن موجودا قديما، ولم تكن هذه المواد موجودة في الفنون التشكيلية، بينما نلاحظ اليوم وجود بعض المواد الجديدة تستعمل في هذه الفنون مثل بقايا قطاع غيار السيارات يصنعون بها دراجة أو حيوان وأشياء أخرى.
وإذا عادت بنا الذاكرة إلى الوراء - يضيف حسني - نلاحظ أنّ لعب الأطفال كانت تصنع بأيديهم في أغلب الأحيان، ومن هنا يكتسب الطفل المعرفة والمهارة في صنع الأشياء، وتلك المهارة تطوّر أفكاره مع الوقت والزمن، وتفتح له مجالا للابتكار، كما من شأنها أن تسهل عليه حتى بعض العلوم كالميكانيك وغيرها...
اليوم ـ يتابع ـ هذا الجيل يفتقد إلى هذه المهارة، حيث تجد مثلا شابا في العشرينات لا يعرف حتى كيف يقوم بتركيب مصباح في بيته، أو ربط سلكي كهرباء في قاطعة، فيلجأ إلى الصّانع ليقوم بإشعال المصباح، وقد يكون ذلك راجعا لانشغال هذا الجيل بالهواتف الذكية والألعاب الالكترونية، بينما نحن نفضّل أن يعود الطّفل إلى اكتساب المهارات دون تحمّل المسؤولية طبعا، كما أنّنا نخشى أن يأتي جيل لا يستطيع صناعة حتى مفتاح باب لأنّ المهارة قد غابت وافتقدت من أيدي الناس.
(بتصرف عن مجلة التنمية المحلية- العدد الخامس)

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024