«زنقة النحّاسين» بقسنطينة

تحف فنية تروي تاريخ مدينة الجسور المعلقة

أنامل تُطوّع المعدن للإبقاء على «الصنعة» بعيدا عن الاندثار

 لا يكسر هدوء حي «بارادو» العتيق بوسط مدينة قسنطينة عروس الشرق الجزائري، سوى صوت المطارق الحديدية التي تداعبها أيدي «صنايعية النحاس»، وهم منكبون على نقش ورسم أبهى وأجمل الحلل الموجهة للزينة، وأفخم أواني الطبخ بمختلف أشكالها، وأحجامها.
تعد حرفة النحاس من بين أقدم الحرف اليدوية التي تشتهر بها قسنطينة كفن يعبر عن هوية المدينة وسكانها، كما أن النقش عليه مهنة عريقة تقتات منها العديد من العائلات التي لا تزال تتشبث بهذه الصنعة على الرغم من الارتفاع الملحوظ في أسعار المادة الأولية وندرتها وتراجع الإقبال على المنتجات النحاسية
وتعود حرفة النحاس إلى العهد العثماني سنة 1740 حيث توارث سكان المدينة الصنعة من الأجداد عبر مختلف الأجيال لتكون هذه الحرفة واحدة من بين أهم الحرف التي تميز قسنطينة إذ ينبهر زوارها بتلك التحف الفنية المعروضة بمنطقة «باردو» التي تعد معقل صنعة النحاس أو كما تعرف بـ«زنقة النحاسين».
يستعمل فيها الحرفيون الملهمون الرقائق النحاسية ليجعلوا منها أواني منزلية في غاية الجمال وذات زخرف يخطف الأبصار، فقد أثرت الفترة العثمانية خبرة الجزائريين في هذا المجال حيث أضافت تقنيات ومهارات وزخارف جعلت من أعمال الحرفيين الجزائريين رونقا من التحف الفنية بعدما كانت لا تعدوا كونها أواني منزلية، فانتشرت لتشمل مناطق عديدة من البلاد مثل تندوف، غرداية، قسنطينة، تلمسان والعاصمة، بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر.
 استضافت الجزائر العديد من الحرفيين من أصول مختلفة، المسلمون الإسبان واليهود في إيطاليا (وخاصة ليفورنو) والعثمانيين، وكان لهذا الانصهار تأثيرا مفيدا على تطوير المهارات التي تجسدت في أنواع تقنيات النقش على النحاس.
ويتطلب النقش على النحاس أدوات مختلفة يمكن وصفها بأنها بدائية، لكن الاستغناء عنها غير ممكن، لأنها أساس ممارسة هذه الحرفة، تتمثل في منضدة خشبية صغيرة، ومطارق حديدية متعددة الأنواع والأحجام، وأقلام فولاذية للحفر، وبعض الأحماض المؤثرة التي تُستعمل في التعشيق (التلميع) المصنوعات النحاسية.
السينية، القطار، السكرية تحف تقاوم النسيان
حسب أغلب الحرفيين لا زال الكثير منهم يجاهد من أجل الإبقاء على العديد من المنتجات على غرار السينية، القطار، السكرية وغيرها من المنتجات التي لا يخلو كل بيت منها، كما لا تتردد كل عروس قسنطينية في اقتناءها لأنها تميزها عن غيرها من عرائس المناطق الأخرى فضلا عن المنتجات التزيينية التي يراد بها إنعاش الحرفة أكثر من خلال ابتكار نقوش جديدة أو ما يسمونه بـ «الرشمة» التي تأتي كلمسة عصرية تزيد من سحر المصنوعات مع الحفاظ على طابعها الأصلي.
يكاد يجزم الجميع على أن صناعة النحاس بقسنطينة فريدة من نوعها ذلك بتغلبها على كل المنتجات التي تأتي جاهزة من الخارج والمصنوعة بشكل آلي يعكس جمالية لكن دون هوية ودون إتقان عكس الصناعة اليدوية التي تأتي من ورشات حية بأنامل تطوع الصلب وتحوله إلى تحف فنية رائعة مستوحاة من هوية المدينة التاريخية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024