سنحكي اليوم عن سلطانة «تُقُّرْت» منذ قرون خلت وهي «عيشوناش الجَلاَّبِيَّة»، و»تُقُّرْت» هي مدينة تابعة إدارياً لولاية «وَرْقْلَة» التي تأسست في القرن الرابع ميلادي في عهد مملكة نوميديا، وتبعد بنحو 620 كلم جنوب العاصمة الجزائرية. تعود الحكاية إلى أربعة أو خمسة قرون خلت، كان فيها «بنو جَلَّاب» أبناء العم أعداء، بعضهم مَلَكَ «تقرت» والبعض الآخر «تماسين».
عند مغيب الشمس، كانت كل مدينة محصنة بأسوارها، تقفل الأبواب بإحكام فيكون أهلها في أمان لا يزعزعه خوف من غزاة أو حيوانات متوحشة، فقد كانت الأسوار متينة شيدها أهل الصحراء فأتقنوا بناءها، وحتى اليوم تشهد سماكة المواد المستخدمة على صلابتها، فهنالك جذوع النخل التي تحل محل الحديد في الخرسانة، بالإضافة إلى الصلصال والرمل اللذين يشكلان الخليط الأساسي، أما الخشب المستخدم فإنه يُنقع في ماء مملح لمدة طويلة، ثم يجفف تحت الشمس لعدة شهور، ليكون مضاداً للعفونة.
الأبواب أيضا كانت تصنع من جذوع النخل، وكان البناءون يشدونها بجذوع الأشجار المغروسة بإحكام في الأسوار. ولما كانت الحماية بعد هذا مؤمَّنة في البيوت، كان بوسع الرجال التأخر خارج البيت والثرثرة مع رفاقهم، أما النسوة فينشغلن بتحضير الطعام على الكانون ويتبادلن الجديد من أخبار الناس. أما بيوت الأسياد فهي قصور ماردة وحصون منيعة بُنيت على صورة تعكس قوة مالكيها الذين هم ملوك الصحراء ممن لم تدفعهم حياة الترف إلى الميوعة، فيَدُ السيّد الفطن لا تفارق خنجره، وعينه لا تغفل عن بارودته.
على مدينة «تماسين» كان يحكم أمير وهبه الله سبحانه جل وعلا، ابنة آية في الجمال، أحبها ملك «تقرت» حباً جماً، كما جاء على لسان خادمتها، كانت الفتاة تدعى «عيشوناش»، وكان والدها فخورًا بأن أنجب جوهرة مثلها، فأنشأها على عُرف القبيلة، وهيَّأها لتعتلي أرقى مناصب العز والجاه. ولما طلب ملك «تقرت» منه ابنته للزواج لم يعر طلبه اهتماماً، بل إنه ازدراه وحط من قدره، فأين «تقرت» من «تماسين» التي اصطفاها الله ببحيرة ماء. جن جنون ملك تقرت وتَملَّكه الغضب والرغبة معاً، فلم يرض بحال الإذلال تلك، بل جهز العدة والرجال للغزو وقد كان له من الكنوز وسبائك الذهب ما يفتح أعتى الأبواب.أما في الجهة المقابلة فقد كان الخصم يشتري الرجال تحضيرا للمواجهة، في ليلة من الليالي قصد رجال مدّججون بالسلاح طريق الجنوب ممتطين أسرع النوق، وفي مباغتة قوية وناجحة استطاعوا الاستيلاء على موقعين فثلاثة، إلى أن أنهوا القتال بالظفر بالغنيمة الكبرى «عيشوناش» قبل بزوغ الفجر، فأضحت غزالة أسيرة ملك تقرت.
لكن الحقيقة كانت أن الملك كان أسير حبها، فرغم أنها أصبحت لديه وأمام عينيه، لا تملك أن ترفض له طلباً، إلا أنه كان يوّد أن يكون قبولها طوعاً، وأن تشاطره الحب الذي يُكنه لها.- «عيشوناش يا قلبي».. قال الأمير لمعبودته، «هل ترغبين في شيء، من أجلك يصيد رجالي الفهد ويأتيك تجار قوافلي من السودان بالذهب...».
لكن عيشوناش كانت تصمت في كل مرة وتطرق رأسها في دموع مكبوتة، غير أنها في المرة الأخيرة خرجت عن صمتها قائلة:
- «أريد رؤية أبي لأطلب منه مسامحتي، فقبولي بحبك يعد إهانة له كما تعلم وسأشعر حينها بالذنب».
قبِل الأمير طلب حبيبته رغم أن كرامة صهره لا تعني له الكثير، وانطلق رُسل الأمير إلى «تماسين»، وتقول الحكاية إن الاتفاق بين الطرفين جاء بعد مشقة، فلم يكن أمير تقرت ليسمح بعودة «عيشوناش» لزيارة أهلها، ولم يكن بن جلاب مع حكمته وشدائد الدهر التي مرت به ليتنازل لخصمه عن شيء، وفي آخر المطاف توصل الطرفان إلى حل أمثل.
- «قبِلْتُ بملك «تقرت» صهراً».. قال أمير تماسين، «وبما أنه دعاني لزيارة ابنتي فسأفعل بالتأكيد، لكن بشرط أن أقيم ببيت خاص بي، وهذا لن يتم إلا إذا أفرد نصف القصر لعيشوناش». - «فليكن».. أجاب الملك الولهان، «فليس من شيء لا أشاطره مع التي حياتها هي حياتي ولها أن تختار أي القسمين يكون لها».
كصبِيَّة غضة تشعر بثقل الأهمية التي مُنحت، تختار «عيشوناش» في تواضع الجزء الأقل فخامة وفي وقار طلبت من الملك مطلبها الأخير:
- «مولاي، أرجو أن تَمُنُّوا عليَّ بفضلكم مرة أخرى فتسمحوا لي أن أقيم في جناحي لأحضر الكسكس بيدي لوالدي وأرسله له كل صباح كعربون صلح مني، ولأعبر له عن احترامي قبل أن ينزل ضيفاً علينا».
- «لا بأس».. قال الملك الولهان.
ومرة أخرى ذلَّل الملك كل الصعاب لعيشوناش، لكنه وعن حرص منه أوقف مرسول «عيشوناش» أول مرة ليتأكد من أنها لم تخرج عن وعدها، فوجدها كذلك إذ لم يكن في القفة إلا الكسكس. ذهبت عن الملك شكوكه في الوقت الذي كانت «الجلابية»، وكان هذا هو اسمها بين أهل تقرت نسبة إلى أبيها ابن جلاب، تحضر لأمر خطر.
لقد حل مكان الكسكس ذخيرة من البارود كانت «عيشوناش» تجلبها من المخزن المتواجد أسفل غرفها، وتملأ بها القفة ثم تضيف حفنات من السميد الخشن من فوق، فيُخفي لونه العاجي سواد البارود، واستمرت «عيشوناش» على هذا الحال قرابة شهر كامل، كان مخزون البارد فيه قد نفد، وكان الملك قد ضاق ذرعاً بهذا الحال:
- «أما آن لتحضير هذا الكسكس أن ينتهي؟».. قال الملك.
- «بلى مولاي».. أجابت «عيشوناش» بصوت ناعم وعيون تفيض حناناً، «وإذا سمحتم سأكتب لأبي رسالة أدعوه فيها للحضور».
كان مضمون الرسالة يقول:
«يا من تفهم كُنه الكلام، أنا ابنتك التي أنهكتها خدمتك فأصبحت ضعيفة متعبة، تنتظر أن تتفضل عليها بزيارتك».
- «فليأت، فليأت وليستعجل بالمجيء».. قال ملك تقرت دون أن يستشعر مكر ما بين سطور الرسالة، وفي الحال رحل الرسول قاصداً والد «عيشوناش» محملاً بآخر قفة.
عند حلول المساء، وبعد أن تسلل الظلام إلى الزقاق كأنه جدول من الحبر، وهبَّت رياح الصحراء مهدهدة سكانها النيام، كان ابن جلاب ورجاله في زي الحرب يتأهبون للقتال وأياديهم على الزناد، ولم يمر وقت طويل حتى اشتعل قتال عنيف تحت نخيل «واد ريغ»، سرعان ما انطفأ، فلم يكن لمقاتلي تقرت غير خناجيرهم، بينما كان المهاجمون يُردونهم قتلى دون هوادة ببنادقهم.
في الأخير ورغم شهامة الملك الشاب، فإنه مات مذهولاً دون أن يُدرك حقيقة ما يجري حوله، مات الكثيرون وهم يدافعون
عن مدينتهم، وفي النهاية نجحت «عيشوناش الجلابية» في الانتقام لكرامتها وكرامة أبيها، وأصبحت فخر «تماسين» ورمز جمالها وعزتها.
بعد هذه الحادثة ملكت «عيشوناش» تقرت لـ 18 عاماً، ويُقال إنها مدفونة في مقبرة الملوك بين أفراد سلالتها، ومقبرة الملوك هذه هي موقع أثري قديم يقع غرب تقرت بالقرب من وسط المدينة.