«سبحان الله يا لطيف»، «لحمام اللّي ربّيتو»، المكناسية وقصائد أخرى ملكت قلوب الجماهير
لا يختلف اثنان على أنّ الحاج محمد العنقاء يعتبر من الفنانين الجزائريّين الكبار، الذين تركوا بصماتهم من حيث الابداع الفني الشّعبي والتّفتّح على النّغمة الموسيقية العربية والعالمية، وكان ذلك كله في أيام الزمن الجميل عبر قاعة ابن خلدون وقاعة الأطلس بباب الواد، وأماكن عديدة عبر ربوع الوطن أين كان المرحوم العنقاء معشوق أهل الفن الشعبي الأصيل حيث أبدع أينما حلّ وارتحل، فكانت أغانيه الرّومانسية الشّعبية التي أحدث بها ثورة في النّغمة الشعّبية، وهذا في حدود الأصالة غير المتمرّدة على العصرنة.
أحبّته الجماهير حتى النّخاع
مطرب عرف كيف يوظّف كل طاقاته الفنية في الغناء الشّعبي الأصيل من خلال أدائه للقصائد الشّعبية هنا وهناك، على غرار القصيدة المشهورة والمحبوبة لدى عشّاق الحاج «سبحان الله يا لطيف»، إضافة إلى النّشيد الوطني الذي غنّاه بفرقة كبيرة وبحضور مطربين كبار على غرار المرحوم قروابي، احسن السعيد وغيرهما، إنّه نشيد «ما بقاش الاستعمار في بلادنا» وكل الطّبوع الشّعبية التي تشبّع بها العنقاء كانت من طرف أستاذه الشّيخ الناظور، الذي رافقه في زمن الفن الشّعبي الجميل.
البداية
بدأ محمد ايدير حالو آيت واعراب الملقّب بـ «بمحمد العنقا» يعشق الفن والغناء وعمره لا يتجاوز 10 سنوات، وهذا حسب المعطيات التي وردت لأناس مقرّبين من هذا العملاق يقولون عنه أنّه كان شغوفا ومولعا بالموسيقى، والشيء الجميل لدى المرحوم العنقاء هو الذكاء القوي الذي ساعده على حفظ القصائد بكل سهولة، بعدها بدأ يداعب آلة الموندول المشهور بها، كما اقتحم في سن الحادية عشر فن الطرب والغناء مع مجموعة من جيل ذلك الزّمن على غرار المطرب المعروف في القصبة الحاج مريزق.
تألّقه مع الشّيخ الناظور
يؤكّدون من عرفوا العنقاء أنه كان قريب جدا من الشيخ الناظور الذي يعتبر أستاذه في الفن الشّعبي، فكان مواظبا ومعجبا بالمطرب الناظور، فكان يحضر كل حفلاته التي تقام في المقهى المقابل لمحطة القطار بالعاصمة.
هي المناسبة المهمّة التي فجّرت طاقته، وكان يستغل هذا الحضور لحفظ الكلمات والألحان، وتدريب أذنيه على الأداء الشّعبي السّليم والهادف.
ما هو سر نجاح محمد العنقاء في الغناء الشّعبي وأصبح ملك الأغنية الشّعبية في زمانه إلى اليوم؟
تؤكّد الأخبار وكل العارفين لهذا الفنان العبقري بأنّه كان يصقل موهبته الفنية وهو في سن الشباب بنصائح الشّيوخ الكبار على غرار سعدي عبد الرحمن، سعيد دراز، الحاج مهدي وبن علي و....
التحاقه بالفرقة الموسيقية
بعدما تغذّى من الشّيوخ الذين سبقوه في الفن الشّعبي، التحق ملك الأغنية الشّعبية بلا منازع بفرقة قهيوجى أخ المطرب المشهور الحاج مريزق، وذلك بإيعاز من الموسيقي المعروف في ذلك الزّمان سعيد العربي، الملقّب «بيرو سعيد». ومن هنا ظهر العنقاء في وسط كوكبة الفن الشّعبي بأنه أهلا للغناء والطرب، وأثبت أنه عاشق للفن الشّعبي وهذا بفضل الدعم الفني المباشر للعنقاء من طرف شيوخ فن ذلك الزمان، وعلى رأسهم مصطفى الناظور الذي يقال عنه بأنّه لم يتخلى عن العنقاء ورافقه طيلة مشواره الفني، حيث تمكّن العنقاء من تزويد نفسه بقواعد الأغنية الشّعبية، وهو ما مكّنه من انطلاقة قوية وناجحة وسار بخطى ثابتة نحو الشّهرة والمجد، وارتقى بالأغنية الشعبية إلى الأعلى بعد رحيل أستاذه الشيخ الناظور في 1926.
أثناء بحثنا على هذا الفنان الخالد، سارع الذين عرفوه عن قرب، وأكّدوا بأنّ الحاج محمد العنقاء هو من تصدّر الأغنية الشّعبية، سواء من حيث الحفلات التي كان يقيمها هنا وهناك، أو عدد التسجيلات آنذاك التي بلغت 30 أسطوانة، والملفت للانتباه أنّ العنقاء في وقت قصير كسب قلوب الملايين من عشّاق الفن الشّعبي، سواء على مستوى الجزائر أو المغرب العربي.
رحلاته الفنيّة
بعد النّجاح الباهر على المستوى الوطني، وبدأ عدد المعجبين بأغاني العنقاء يسجّل قفزة نوعية في الفن الشّعبي، حيث زاد الطلب على أغانيه، والطّلبات عليه لإحياء الحفلات والأعراس والمناسبات الكبرى، يقال حتى أنّ ملك المغرب محمد بن يوسف أحبّ الفن الشّعبي للمطرب العنقاء، وطلبه سنة 1932 لاحياء حفل متميز بالرباط على شرف الملك.
رحلته إلى أوروبا
يعد هذا النّجاح المنقطع النّظير لعملاق الأغنية الشّعبية ليصل إلى قلب باريس، حيث كثرت تنقّلاته إلى هناك لإحياء الحفلات لطرب مغتربينا والجالية العربية لتأتي خطوة التّسجيل في 1937، حيث سجّل أغنية الحجة التي مكّنته من زيارة البقاع المقدّسة.
العنقاء توقّف عن الفن مع بداية الثّورة المظفّرة
توقّف نشاط العنقاء الفني بعد انطلاق الحرب التّحريرية، بعدما كان نشاطه في حالة انتعاش مستمر إلاّ أنّ الثورة أولى بهذا، إلى أن أصدر أغنيته المشهورة «الحمد لله ما بقاش الاستعمار في بلادنا» بمناسبة الاستقلال الوطني، وكانت هذه الأغنية مدوية لدى الأوساط الشّعبية نظرا لقيمة اللّحن والكلمات والأداء.
إشرافه على فرقة الاذاعة والتلفزة
بعدها أسندت إليه مهمّة الاشراف على الفرقة الفنية الشّعبية التابعة للإذاعة والتلفزة آنذاك ومدة الاشراف دامت ثلاث سنوات تقريبا، ثم تخلى عن الفرقة سنة ١٩٦٤، ليتفرّغ الحاج للبحث والدّراسة في مجال الأغنية الشّعبية التي أعطاها كل شبابه وخرج بها إلى العالمية، وهذا بفضل التّنويع والاثراء في الطّبوع، وكذا إقحام بعض الآلات الموسيقية الحديثة التي أعطت رونقا وجمالا للأغنية الشّعبية، وهذا بفضل ما كان يقدّمه عبقري الأغنية الشّعبية من قصائد ذات بعد فني رفيع على غرار أغنية «المكناسية»، «مرسول فاطمة»، « يا ناسي لحمام»، «صالح باي»، «الباز» وغيرها من الأغاني الشّعبية النّاجحة، والتي تغنّى بها الكثير من المطربين بعده وإلى اليوم.
إنتاجه
تمكّن العنقاء من تسجيل ٣٦٠ قصيدة شعبية، وسجل ما يقارب ١٣٠ أسطوانة، فضلا عن كل هذا الارث الفني، فإن العنقاء ترك وراءه إرثا بشريا تعلّم على يديه وتتلمذوا عليه، أمثال عمر الزاهي، العنقيس، محمد طماش، قروابي و…
وكل هذه الأسماء التي ذكرناها ذاع صيتها في سماء الأغنية الشّعبية بفضل حنكة العنقاء وثقافته الفنية جعلت من هؤلاء يعتزون به كلّما قاموا بحفلات هنا وهناك إلا وتجد اسم العنقاء يدوّي في القاعات نظرا لقيمة هذه القامة، وما تركته من إرث فني شعبي يتحدّث عنه الأجيال لكن إرثه الفني يبقى خالدا إلى الأبد.