مثل فينيقٍ ينهض من تحت رماد المجمرة، تتوالى مواكب الأحرار الخارجين من “مدافن الأحياء” بالمئات، تتملّكهم مشاعر مختلطة، بالبهجة والفرح بلقاء الأحبة بعد طول فراق، حتى ساد الظن أنْ لا تلاقيا، وبتباريح الألم من هول ما كابدوه خلف ستائر العتمة طيلة سنوات الاعتقال.
مشاهد الأسرى وقد أُجبروا على ارتداء ملابس مستوحاةٍ من “الهولوكست”، وما تعرضوا له من أشكال التعذيب والتنكيل، بتركهم مُكبلين طيلة ساعات النهار، ورتق جروحهم بخيوطٍ ينسلونها من أغطيتهم، ومسلّات يصنعونها بأيديهم، إنما تعكس ممارساتٍ تفوق ما قارفته النازية، التي يُعيد أحفاد ضحاياها إنتاج أهوالها بحق ضحايا آخرين، لا علاقة لهم بها.
«كان بالإمكان أفضل مما كان”، هذا ما كشف عنه مسؤولون صهاينة شاركوا في المفاوضات الماراثونية، طيلة الأشهر الخمسة عشر من حرب الإبادة المجنونة، أي أنه كان بالإمكان أن يتم تحرير المحتجزين والأسرى المحررين بأثمانٍ أقل، لو تم إبعاد الأجندات الأصولية التوراتية التي ضغطت لإطالة الحرب، تنفيذاً لمخططاتها بالسيطرة على غزة.
مرّ “سبت ترمب” بهدوءٍ لا يُشبه صاحبه الصاخب المتوعد غزة بالجحيم، لكنه يُقيم درساً بأنّ القوة لا تصنع سلاماً، ولا تُحقق أمناً، وأن التهديد والوعيد لا ينفعان مع الشعوب الحرة، التي تفتدي أوطانها بنجيع دمائها…من السخرية أن يبدو نتنياهو “رجل سلام” أمام جموح ترمب!
كرة اللّهب يتلقّفها العرب!
يكتظُّ شهر شباط الذي ليس عليه رباط بالمواعيد، العاجلة منها والآجلة، لجهة رتق الخرق الـمُتسع في الثوب العربي، الذي تنهشه الذئاب وتطارده الضباع، في واحدٍ من أكثر الممرات التي تعبُرها الأمة ظلاماً وضيقاً وخطراً يتهدّدها حاضراً ومستقبلاً، يتلمظ فيه أعداؤها لاقتطاع أجزاء من جسدها بالبلطات والسكاكين، وهي في لحظة إرباك، ترقد على “سرير الشقاء”، الذي أصابها من سوء أدائها، وتفرّق كلمتها، وتعدّد أجنداتها، وقلّة حيلتها، وهوانها على الناس، أكثر مما أصابها من بطش أعدائها.
بين القمة الخماسية التي تحتضنها العاصمة السعودية يوم العشرين من الشهر الجاري، والقمة العربية التي قد يتمُّ إرجاؤها إلى موعدٍ لاحق، لأسبابٍ لوجستية، كما صرّح بذلك الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي، فإنّ كرة اللهب تتدحرج من حالق، متوعّدةً بالجحيم تارةً، وطوراً بالتهجير على نحوٍ تنحسر فيه الخيارات، وتضيق المسافات، ويتدنّى فيه مستوى الرؤية الأُفقية، وسط أعمدة الدخان التي تسدّ الآفاق.
بين القمّتين، لا خيار للأمة سوى الاتفاق، وطيّ صفحة الخلافات، وجسر الفجوات، وترصيص الصفوف، أمام عدوٍّ بلغ سقف الجنون، وتجرّدَ من كل الأنظمة والقوانين، يعتنق أُسلوب الصدمة والإرعاب والتصويب، لاختبار حوائط الصدّ ومدى الجاهزية للردّ، والقدرة على تشتيت الكرات عن المرمى العربيّ المستباح بتسجيل الأهداف الذاتية أكثر مما يُسجله الخصوم والأعداء، والتي أيقظت لدى الأُمّة مكامن الخوف الوجودي، في ضوء ما يجري من تسييلٍ للخرائط، وتوسيعٍ للحدود، في عالمٍ يُقاد بالحماقة والارتجال، ونوازع الانتقام الممهورة بالأوامر التنفيذية.