شجن الحرية

بقلم : عصري فياض

هنا، في هذه الصحراء الصامتة، للأسرى لغة مثل صرير الريح، وللأسرى عيون تماما كما النوافذ التي تطلّ بشعاع القلب وجراحاته وأنين شوقه، الوقت الذي هو قطع العذاب، ولسعات السياط، يمرّ بطعم خاصّ، تظهر ملامحه على تلك الأرواح التي تناجي الأفق، وتتطلّع لتقرأ فيه الخبر الزلال الذي ينتظره ألآف المنتظرين.

إنّهم يبتلعون دخان جراحهم صمتا وكبرياء، فتلمح في سجل حياتهم اليومي لوحات بقاء، ومشاهد إصرار، ولمحات تشير إلى أنّ الآتين من وجع الشعب هم من زبدة أبنائه..سهل عليهم أن يتداعوا لجلسة أو ندوة أو سهرة، فكان عصر ذلك اليوم موعدا لندوتهم الأدبية.
 كان الاستعداد قد بدأ قبل أيام وتصاعد منذ الصباح، الخيمة التي تحنو بردائها على أولئك الأخيار، أوعزت لمساحتها بما حوت من أسرة أن تعيد الانتشار، وأن تتهيّأ على أكمل وجه، وأن تكون سهلة يسيرة الحراك، وحملت جدران شرايينها الداخلية صور الراحلين إلى ما بعد السماء...حان الوقت، وامتلأت الفضاءات وجلس المدعوّون يستقبلون عذب الكلام، وتعابير ما جادت به الأنامل والأقلام.
 فقال العريف: نحن قوم تعوّدنا أن نجعل من قيدنا سنابل، ومن ظلمة ليلنا مشاعل..، ومن أرواحنا التي تصلى بلهب الظلم أعمدة عدل وحرية..وبداية ندوتنا قصيدة شعرية. تقدّم الشاعر الأسير، وافتتح دفتر أشعاره الصغير، ورفع رأسه وحيّا، ثمّ قال :
أمي ترفع الصورة
كعادتها كلّ خميس
تشدّ الرحال إلى الزاوية المقهورة
هناك تصرخ..تذرف الدمع
تنادي: أين أهل العدل في هذه المعمورة
أمي ترفع الصورة
ينام على كتفها أخي الذي خلق ونما بعد غربتي
قالوا لها:- طفل صغير
قالت:- استحلفته أن يبقى، فأبى وقال :-
صورة أخي أول خطواتي نحو الماسورة !!
أغلق دفتره وترجّل، فعاد العريف، يحضر الجالسين للشيخ الجليل،..قدّم من الكلمات أرفعها شأنا ومن العبارات أكثرها قدراً، وقبل أن ينهي كانت الحناجر تزفّ الشيخ إلى المنصّة التي وصلها بابتسامة تواضع وتكلّم مرتجلا فقال:
مخطئ من ظنّ يوما أنّ رمال بلادي تذيب عظامي
مخطئ من ظنّ يوما أنّ الشفق الأحمر مدفن أحلامي..
وأهمّ من اعتقد أنّ عمري الذي استوطنه الخريف يوهن
أركاني..
ماض ٍ أنا نحو الشمس
لن أتراجع
حتى ولو سلخوا جلدي
وصلبوا يومي وأمسي
وعجّلوا في مدافن الصمت منامي
عاد العريف وحيّا، وأجاد الثناء..وقال: مسك الختام لوحة يرسمها فنان، بريشة الحروف وبلون الوجع والثبات، والأمل والظمأ، هل رأيتم تلك الألوان..لنسمع ونرى..قال مسك الختام يخاطب الوطن الذي يراه في تلك العيون العطشى التي اشرأبت نحوه:- قيّدٌ ينهشُ عظامي من أجلكَ ما أجمله، وحبلٌ يطوّقُ روحي في سبيلكَ ما أرحبه، ولحمي الذي استعصى على الجلادِ في دربكَ الطويلِ فنائل مشعلــــــــــــــة، صفق المحرومون للشعر وعادوا، وبقيت الكلمات كالقناديل معلقة في جوف الخيمة والذاكرة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19680

العدد 19680

الأربعاء 22 جانفي 2025
العدد 19679

العدد 19679

الثلاثاء 21 جانفي 2025
العدد 19678

العدد 19678

الإثنين 20 جانفي 2025
العدد 19677

العدد 19677

الأحد 19 جانفي 2025