تمر بنا في هذه الأيام الذّكرى السنوية الأولى لاستشهاد الوالد العالم الربانيّ فضيلة الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة - رحمه الله رحمة واسعة - وذلك يوم الأحد 18 جمادى الآخرة 1455 هـ الموافق 31 ديسمبر 2023 م على إثر عملية اغتيال جبانة نفّذتها طائرات الاحتلال الصهيوني.
شاءت إرادة الله أن تلحق به الوالدة المربية الفاضلة فاطمة محمد سلامة، رحمها الله رحمة واسعة بعد إصابتها صباح ذات اليوم. وفي الحقيقة أنّ شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية فقدت باستشهاده - رحمه الله - أحد الرموز والرجالات الذين نذروا حياتهم لله وللإسلام وللعلم والدعوة إلى الله، فقد كان عالماً جليلاً ومجاهداً كبيراً مدافعاً عن قضايا فلسطين والعرب والمسلمين.
ومن فضل الله سبحانه وتعالى علينا أن حبانا بوالد فذّ حكيم أخلص من أجل الدين والوطن، بذل في سبيلهما النفس والنفيس، ولم يذخر جهداً في خدمة قضايا الأمتين العربية والإسلامية، حيث زخرت رحلته المعطاءة بالإنجازات والنجاحات العظيمة على جميع المستويات الدينية والسياسية والإنسانية. فذكراك الطيبة يا والدي لا تزال حيّة على ألسنة الجميع، وسيرتك العطرة يتفوّه بها القريب والبعيد.
إنّ الكلام عن سيرة الوالد - رحمه الله - ومسيرته المباركة وكريم خصاله وجليل أفعاله لفي حاجة إلى مجلدات من الكتب، ولكننا نقتبس منها قبساً يضيء للسائرين بعض المحطات والإنجازات في حياته. نشأ والدي الشيخ وترعرع على حبّ القرآن الكريم، واتباع المنهج النبوي منذ صغره، وكان محبًّا للعلم والمعرفة، تربّى على حبّ الوطن والدفاع عنه والتضحية من أجله، وكان شغوفاً جدّاً بتاريخ وطنه، فكان منذ نعومة أظفاره ينظر للوطن نظرة ملؤها الحبّ والانتماء، كما أنه امتلك تجربة عملية ثرية وخبرة واسعة اكتسبها من معايشته وملازمته لكبار العلماء والشخصيات الوطنية والإسلامية.
وقد أنجز الوالد الشهيد بهمّة واقتدار ودرجة عالية من المسؤولية الوطنية كافّة المهام التي أوكلت إليه في مختلف المناصب الرئيسة التي شغلها خلال حياته، حيث ترك بصمات واضحة على الإنجازات التي تحقّقت وأصبحت اليوم ماثلة للعيان، فكان - رحمه الله - كالغيث أينما وقع نفع. وإن المتأمّل في جهود وإنجازات الوالد ليدرك أنه أمام شخصية عُرفت بالخير والكرامة والإجلال والأفكار العالية، إنه نوع من الرجال يجمع بين الريادة والإبداع، ويقدّس العمل والواجب، ويدرك مسؤوليته العميقة نحو شعبه ووطنه.
ويكفيه فخراً أنّ اسمه اقترن باسم القدس والمسجد الأقصى المبارك، والذي هو قبلة المسلمين الأولى، وبوابة الأرض إلى السماء، وأرض المحشر والمنشر، حيث كانت قضية القدس والمسجد الأقصى هي القضية المركزية في حلّه وترحاله، وهي من أكبر همومه وشجونه، وفيها قضى الكثير من الوقت والجهد، خطابةً وكتابةً، وعنها دافع بالقول والعمل، كيف لا وهو خطيب المسجد الأقصى المبارك منذ تسعينيات القرن الماضي، والنائب الأول المنتخب لرئيس الهيئة الإسلامية العليا بالقدس، وهي أول هيئة للمرجعيات الدينية بعد احتلال مدينة القدس.
كما كان - رحمه الله - عضواً في مجلس رؤساء الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات، وممثلاً لفلسطين في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي. كان الوالد الشهيد منذ شبابه حلقة الوصل بين المؤسسات الدينية في قطاع غزة، والضفة الغربية والقدس، حيث عمل على استضافة العديد من العلماء من القدس لإلقاء المحاضرات والمشاركة في الفعاليات التي كانت تُقام في قطاع غزة قبل عودة السلطة الوطنية الفلسطينية لربط الوطن ببعضه البعض بعيداً عن الحدود الجغرافية التي فرضها الاحتلال.
ومن الجدير ذكره أنّ الوالد الشهيد من الذين نذروا حياتهم وسخّروا طاقاتهم لخدمة كتاب الله وحفظته، كيف لا؟ وهو صاحب شعار (فلنملأ فلسطين بحفظة كتاب الله)، وقد تجلى ذلك بوضوح في افتتاح المئات من مراكز تحفيظ القرآن الكريم في محافظات الوطن كافّة، وتعيين المئات من حفظة القرآن الكريم في الوزارة لتحفيظ القرآن الكريم وإمامة المصلين في المساجد، وأيضاً إنشاء مشيخة المقارئ الفلسطينية ومنتدى الحفّاظ، وافتتاح إذاعة القرآن الكريم التابعة لوزارة الأوقاف، ونشر مصحف بيت المقدس بصوت فضيلة الشيخ محمد رشاد الشريف (قارئ المسجد الأقصى المبارك).
ومن الجهود المميّزة للوالد أنّه قام بطباعة مصحف بيت المقدس سنة 2004 م، وهو أوّل مصحف يطبع في تاريخ فلسطين. بهدف نشر كتاب الله الكريم ورفع اسم القدس في جميع المحافل العربية والإسلامية، وكذلك إقامة مسابقة الأقصى الدولية في حفظ القرآن الكريم وتفسيره سنة 2005 م، وهي أول مسابقة دولية تُقام على أرض فلسطين المباركة، وقد شارك فيها وفود من أكثر من عشرين دولة، وذلك لربط أبناء الأمة العربية والإسلامية بأرض الإسراء والمعراج.
ومن جهوده نشر التعليم الشرعي في فلسطين، وقد تجلّى ذلك بإنشاء المدارس الشرعية في ربوع الوطن كافّة، وأيضاً إنشاء كلية الدعوة الإسلامية بفرعيها في غزة وقلقيلية، والتي تهدف إلى تخريج جيل من الدعاة الأكفاء من الذكور والإناث للعمل في ميادين الوعظ والإرشاد، مع العلم بأن الدراسة في المدارس الشرعية وكلية الدعوة مجاناً، وكذلك المساهمة في اعتماد برنامج الدراسات العليا في العلوم الشرعية بجامعة الأزهر بغزة.
ومن الإنجازات المهمة التي سُجّلت في مسيرة الوالد - رحمه الله - زيادة حصة فلسطين في موسم الحج إلى أضعافٍ وأكثر، وفي عهده كانت أول استضافة لأهالي الشهداء والأسرى لأداء فريضة الحج والتي يطلق عليها اليوم (حجاج مكرمة خادم الحرمين الشريفين).
إنّ إنسانية الوالد هي مفتاح شخصيته، فكل من عاصره وعرفه يشهد له بذلك، فقبل أن يكون وزيراً وخطيباً للمسجد الأقصى المبارك هو إنسان يحمل في قلبه وعقله مشاعر فيها الكثير من الإنسانية والمحبّة والعطاء، فكان يحرص على التواصل مع المواطنين لمعرفة أوضاعهم المعيشية وتلمس حاجاتهم، ويعمل قدر الإمكان على توفير الحياة الكريمة لهم كما كانت للوالد - رحمه الله - بصمات رائدة وكثيرة، حيث أقام العديد من المشاريع الخيرية والتي تقوم بمساعدة الفقراء والأيتام والأسر المحتاجة، وكذلك مساعدة الطلاب والمرضى من خلال إنشاء الصناديق الخيرية لهم.
لقد كان الوالد مصلحاً كبيراً، حيث كان يسعى بين الناس بالخير وجمع الشمل وإصلاح ذات البين بالكلمة الطيبة والأسوة الحسنة، وكان مرجعاً في قضايا الإصلاح بين الناس برأيه السديد وعلمه الغزير وخبرته الكبيرة وحنكته المعهودة. كان على رأس لجان الإصلاح لإلقاء كلمة الشرع والدين في ترغيب الناس بالاحتكام لشرع الله والتحلي بالصبر والثبات، وكذلك بالعفو والصفح الجميل.
وخلاصة القول إنّ مآثر الوالد جمّة وكثيرة، تتلألأ بأعظم المواقف الإنسانية النبيلة والأبعاد الاجتماعية الرفيعة.
لقد ترك إرثاً مجيداً من المؤلفات والبحوث والمقالات، وهي صدقة جارية بإذن الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”، حيث كان - رحمه الله - يبحر في دراسة تاريخ القدس والمسجد الأقصى المبارك وتوثيقه، ومن أهم المؤلفات التي تركها على سبيل الذكر لا الحصر:
- 1- إسلامية فلسطين.
- 2- فلسطين المكان والمكانة.
- 3- دليل المسجد الأقصى المبارك.
- 4- سلسلة علماء من أرض الإسراء.
- 5- سلسلة قراء من أرض الإسراء.
- 6- معالجات إسلامية.
وله العديد من المؤلفات التي تعالج الكثير من من القضايا الدينية والفقهية منها:
- 1- دليل النجاة في أحكام الطهارة والصلاة.
- 2- أحكام الصيام في شهر رمضان.
- 3- مناسك الحج والعمرة.
كما عُرف عن الوالد - رحمه الله - ملامسته آمال المسلمين وآلامهم في كل بقعة من بقاع الأرض، وعُرف بمناصرته لقضايا الأمة الإسلامية، ومن أشهر أقواله: “إنّ أرض فلسطين ملك للمسلمين، وهي أرض وقف إسلامي؛ لأن أرض فلسطين أرض طيّبة، أرض مباركة إلى يوم القيامة”. “ارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى ارتباط عقدي وليس ارتباطاً انفعالياً عابراً ولا موسمياً مؤقتاً، فهو أولى القبلتين وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم “. “الوحدة الوطنية فريضة شرعية وضرورة وطنية”. “قضاء حوائج الناس من أجلّ وأشرف الأعمال قربة إلى الله - عز وجل -”.
انتقل والدي الشهيد إلى جوار ربه بعد أن قضى سنيّ عمره في خدمة الدين والوطن، حتى كان درّة العلماء العاملين في العالم العربي والإسلامي، ومن فضل الله أن تلاميذه منتشرون في العديد من المؤسسات الدينية والتعليمية.
رحم الله والدينا رحمة واسعة، وتقبّلهم في عباده المتقين وأعلى درجاتهم في الصالحين، وجعل ما قدّموه للإسلام والمسلمين في صحائف أعمالهم وميزان حسناتهم.
في ذكرى استشهاد والدي الشـيخ الدكتور
يوسف جمعة سلامة.. رجـــل بأمّــة
بقلم: إبراهيم يوسف سلامة
شوهد:279 مرة