حرص الأستاذ في مادة التّاريخ حسين عبد الستار على إبراز دلالات الحفاظ على ذاكرة المقاومة الشّعبية والحركة الوطنية والثّورة التّحريرية، وما أفرزته من قيم التّضحية ونكران الذات والإصرار على تحرير الأرض، واسترجاع السيادة السّليبة والمغيّبة منذ ١٣٠ سنة من احتلال استيطاني غاشم قضى على الأخضر واليابس وعاث في الأرض فسادا.
هذه الذّاكرة الزّاخرة بالنّضالات الفذّة والمحطّات الفريدة والمواقف النّادرة تتعرّض اليوم لمحاولات تقزيمها، والأكثر من هذا طمسها وتشويه مسيرتها الحاملة لرمزية القدوة في بناء الدولة الوطنية ذات المبادئ المناوئة للاستعمار، وهذا ما يستهدفه البعض في الوقت الرّاهن.
والذّاكرة ليست ترسانة من القوانين يراد منها الإحاطة بـ «تحرّكاتها» حتى لا يعتدي عليها أحد، وإنما يقصد منها أنّها منظومة من البصمات الثّابتة في صناعة الأحداث النّاصعة والمؤثّرة في مصير وطن مكبّل بالأغلال، والعمل على تخليصه من تلك الأصفاد ونعني تحقيق الوثبة التّحريرية.
هذا الجدار الواجب أن يكون الوافي لأي مسعى مغرض يريد التلاعب بهذه الذّاكرة، وفي هذا الاطار وصف الأستاذ عبد الستار ما يحدث بـ «تعفين التاريخ»، ويعني بذلك محاولة إلحاق الضّرر المعنوي بالثّورة المجيدة، وهذا عن طريق المساس برموز الكفاح الوطني، والتقليل من تضحياتهم مع التّركيز على التّفاصيل الشّخصية لمواقف معيّنة حدثت في مرحلة خاصة، وللأسف فإننا ورثنا «روايات» استفزازية ترسّخت في أذهان النّاس تجاه فلان وعلاّن.
وهؤلاء الذين أقسموا على إطفاء وهج الثّورة من خلال العمل على تزييف حقائقها لن يهدأ لهم بال، حتى يروا نواياهم متبنّاة من قبل البعض، ولابد من الرد على ذلك بواسطة استراتيجية واضحة المعالم، ذات التّوجّهات الوطنية القائمة على معايير علمية واضحة مضامينها ذات التّأثير البالغ على شتى الفئات.
وعليه، فإنّ الفرز ضروري في الكتابات المتعلّقة بالثورة والخروج من الكتاب الأكاديمي إلى ما يعرف بالمذكّرات الشّخصية غيّر مسار كيفية تقديم هذه المادة الى القارئ، حتى وإن كانت لا تلقى الاجماع الكافي في تناولها لمجريات الأحداث.
أرشيفنا...ذاكرتنا
والحديث عن الأرشيف مع الأستاذ حسين عبد الستار المولع بتاريخ الثّورة والملم بخباياه وخفاياه، لم يخل من ذلك الحماس الفيّاض الممزوج حقّا بتلك الرّغبة الجامحة في المطالبة باسترجاعه في أقرب وقت، لكن تجري الرياح بما لا تشتهيه السّفن، الملف يتجاوز أحيانا إطاره التقني ليبلغ سقف الضغط السياسي، وهذا ما نلمسه عندما يتعلق الأمر بالجزائر.
في هذا السياق، يقول الأستاذ عبد الستار أنّ الأرشيف الجزائري موجود في العديد من البلدان بحكم تواجد مسؤولي الثورة هناك، وما علينا إلا التّحلّي بتلك الارادة السياسية لاسترجاعه في أقرب وقت، وهذا بعدم تركه عرضة لاعتبارات أخرى قد تؤثّر عليه كجعله يخضع لبارومتر العلاقات الثنائية بين الجزائر وفرنسا.
وبالرّغم من كل هذا الضجة المفتعلة حول الأرشيف من قبل الفرنسيين وادّعاءاتهم المتكرّرة بخصوص هذا الملف، على أنّهم منحونا ما طلبناه، فإنّ النسبة لم تتجاوز 2 ٪ وما تمّ استرجاعه عبارة عن علب من وثائق ذات الطّابع التقني الجاف، يصعب التّعامل معه وفي هذا المجال لابد من التذكير هنا بالخرائط الخاصة بالألغام المزروعة في العديد من مناطق الجزائر خلال عهد الاستعمار التي سلمت الى المركز الوطني تبين فيما بعد بأنّ الأحداث تجاوزتها بعد أن جرفتها السيول إلى جهات أخرى، ولم تعد ثابتة في مكانها هذا ما أثار غضب المشرفين على الأرشيف، وفهموا رسالة هؤلاء على أنّهم لا يعطوننا ما نريد بل هم الذين يتحايلون علينا بالوثائق التي لا تعود على المجموعة الوطنية بالفائدة المرجوة في مجالات التصنيف الاستغلال والبحث، وكذلك حتى العمل على نزع الألغام، هذا لم يحدث إلى غاية يومنا هذا.
أوردنا هذه العيّنة كي نظهر ما مدى الرّفض الذي يبديه الآخر تجاه أي مطلب في هذا الشأن، وفي كثير من مصالح الأرشيف الفرنسية تمنع الاطلاع على كل ما يتعلق بالجزائر وعن قصد يكتبون يافطة مفادها «متحفّظ عليه» وهي بصراحة «ممنوع» لا أكثر ولا أقل، ولا يسمح لأي أحد مدّ يده إلى العلب الوثائقية.
حتى ملف الجماجم لم يرى النور حتى الآن، علينا باسترجاعها آجلا أم عاجلا وإخراجهم من متحف الانسان، لذلك لا ننتظر من فرنسا أن تعيد لنا أرشيفنا إذا ما أخذنا تجربة تونس التي استنسخت أرشيفها لمدّة 20 سنة من فرنسا.