حلّل أمس المجاهد مولود مني والباحث في مادة التاريخ عبد الفتاح عيادي تحليلا وافيا لمفهوم واجب الذّاكرة في مسار تواصل الأجيال، استنادا إلى إطلاعهم الواسع على أحداث الثّورة التّحريرية، الأول عايشها قلبا وقالبا والثاني انغمس في أرشيفها الثري مكتشفا حقائق مذهلة عن الجرائم وعن النظام الإستعماري في الجزائر.
واجب الذّاكرة بالنسبة للجزائريين هو الوفاء لعهد الشّهداء الذين ضحّوا بأنفسهم من أجل استرجاع هذا الوطن المفدّى الذي كان في الخطاب الكولونيالي جزءا لا يتجزّأ من فرنسا وكشف أعماله اللاّإنسانية ووجهه القبيح ضد الجزائريين، وبهذا تكون ذاكرة الآخر مليئة بكل تلك الأهوال المرعبة، قتل، تعذيب ونفي وغيره.
أما واجب الذاكرة بالنسبة للذين يستعملون هذا المصطلح في الضفة الأخرى يراد لها أن تمحو كل تلك التّضحيات الجسام للجزائريين، والترويج لصورة غير حقيقية خلفياتها تلك الدعاية الهدّامة خاصة عبر الصّورة، وهذا ما كشف عنه عيادي عندما أشار إلى وجود أشرطة وثائقية تسوّق لطروحات دعائية بحثة كإظهار عساكر الإحتلال في زي عسكري يوزّعون مرطبات على الأطفال، يجب أن ننتبه لمثل هذه الأشياء الخطيرة جدا على التاريخ.
المجاهد مني أعطى مشهدا متكاملا عن واجب الذاكرة بالنسبة للجزائريين عندما عدد التاريخ الأسود لديغول في الجزائر، والحالة الإستثنائية التي خلفها عند توليه زمام السلطة، دشنها بالعهد الذي قطعه على نفسه بسحق الثورة والقضاء على رجالها، وشروعه في إقامة الخطوط الكهربائية الجهنمية وتشجيعه للتعذيب وإغتيال القيادات الثورية، وغيرها من الممارسات القمعية لمحاولة خنق الثورة.
هذا هو واجب الذاكرة أي السعي من أجل القضاء على ثقافة النسيان تجاه الأجيال القادمة، وإظهار لها بأن إستعادة الوطن لم يأت من العدم بل هو نتاج تضحيات شعب بأكمله صمد صمودا ثابتا ضد آلة الموت، وقد أبرز المجاهد مني هذه الصفات النادرة لدى المجاهدين الجزائريين في الظروف القاسية جدا لم يتمالك فيها نفسه، واغرورقت عيناه بالدموع مختزلة المعاناة في أسمى قمّتها.
ويدرك الجزائريّون أنّ هناك حربا للذاكرة تشن عليهم من قبل الأوساط الكولونيالية، التي ما تزال تحمل في ذهنها أفكارا إستعمارية خالصة، أي أنها لم تهضم إستقلال الجزائر إلى غاية يومنا هذا، وتحاول أن تتحايل على الجزائر بما يسمى بواجب الذاكرة على طريقتها الخاصة المعمول بها التي تجر في طريقها البعض من الذين يعتدون ذلك.
وقد قدّم كل من المجاهد مني والباحث عيادي وقائع مثيرة عن عيّنات من الأعمال الإجرامية التي ارتكبها غلاة المعمرون ضد الجزائريين من خلال الشهادات الحية ومضامين الصورة المؤثرة والمعبرة في آن واحد يلتقي الإثنان أو يتقاطعان عند نقاط مشتركة، ألا وهي ضرورة التحلي بالحيطة في مثل هذه المواقف الحسّاسة والأوضاع الشائكة.
وعليه، فإنّ الجزائريين مدعوون أن يولوا المزيد من الإهتمام من أجل تعميق مفهوم الذاكرة، بإتجاه إثراء تاريخ الثورة، وفق قواعد مبدعة تدعّم هذه الخيارات الوطنية القوية، لأن الأمر يتعلق بتلقين القيم النادرة كنكران الذات من أجل الوطن.
ونحن عشيّة إحياء ذكرى الثورة المجيدة يستحضر كل أخيار وأطهار هذا الوطن الشّهداء الأبرار، الذين قدموا أنفسهم قربانا للحرية والإنعتاق، وقد عشنا أمس بمنتدى “الشعب” لحظات مؤثّرة وحاسمة في آن واحد، لا لشيء سوى أن المجاهد مني أعاد شريط المعاناة مع الإستعمار، والأوقات الصعبة التي عاشها رفقاؤه جراء الصبر على كل المحن..ففي كل مرة كان يبدي فخره لثورة نوفمبر واصفا صانعيها بالحكماء الذين تخرّجوا من “البيئة الجزائرية” آنذاك علّمتهم الصّبر والتضحية، وهذه الأوصاف الفريدة يجب أن تكون محل اهتمام الشباب خاصة.