محراب الأسى

أسماء عيسي

على الصفحة الأولى من دفتر مذكراتها، كتبت بكل عنفوانها الأنثوي وكأنّها المرة الأولى التي تخذلها تقاسيم الحياة: إنّها الواحدة إلا ربع بعد منتصف ليل حالك، ها أنا أجالس غرفتي وحيدة وسط الظلام وصوت المطر، ترتطم قطراته بنافذتي ويرتطم قلبي مع كل قطرة ليأتيني صوتك من بعيد، إنني أرى وجهك عبر النافذة، أشم رائحة عطرك تنبعث في أنحاء المكان، أتنفسها فيعود بي الزمن إلى ما قبل الفراق آه يا فقيد القلب، ها هي تمطر في الخارج، يشتد المطر والظلام ومعهما تشتد حاجتي للحديث معك، إنها تمطر يا حبيب المطر، تمطر أكثر من أي وقت مضى وها هو البرد يشتدّ كما لم يكن من قبل..
تنهّدت ثم أكملت رسالة خطيئة حبها..إلى الرجل الذي لم أكن يوما طماعة في حبه، بل كنت أرضى بكسرة حب من قلبه القاسي، وأقتات على فتات وقته الذي يهبني إياه مرغما بعد يوم عمل متعب حين لا يجد من يتسامر معها، كنت خائنا ومخادعا أعرف ذلك، ولكن قلبي لم يكن يفهم، ولكنني كنت أتظاهر بالغباء لأبقى معك..
إلى الرجل الذي يغلق هاتفه بعد أن يخبرني بأنّه متعب وبحاجة للنوم والراحة بينما يبدأ سهرته مع إحداهن..لمن كان يعتذر عن لقائي بحجة العمل، ويتظاهر بالغضب من أقل كلمة أو موقف يصدر مني فقط ليتركني أبكي وأعتذر..
يا ترى أي امرأة تصبر على كل هذا الجبروت والأذى؟ أعلم أنك ستقول لا أحد سوى امرأة حمقاء غبية..لا لم أكن يوما كذلك، بل كنت امرأة عجن قلبها بماء الحب، امرأة تبكي في الخفاء كل ليلة من شدة عشقها لرجل لا يعرف الحب أصلا..
لطالما كرهت كل ما قد يبعدك عني من أصدقاء أو عمل أو أي شيء آخر، حتى ساعات نومك الطويلة كنت أكرهها لأنها تسرقك مني ولم أتوقع يوما أن تسرقك مني امرأة أخرى! أرجوك أخبرني كيف استطعت أن تعيش مع امرأة لا يربطك بها سوى ورقة واثنين من الشهود؟
امرأة لا تحفظ تاريخ تعارفكما ولا تحضر لك الهدايا والورود في يوم ميلادك، لا تعرف عطرك المفضل ولا أي أنواع الحلوى تحب، امرأة لا تعشق بحة صوتك، امرأة لا تهتم بتفاصيلك الصغيرة، ولا تجيد تدليلك على النحو الذي تحب، بربك أخبرني من ستفعل كل هذا بعد رحيلي؟
أجهشت بالبكاء كما لم تفعل من قبل، بكت بحرقة أم تنتظر ابنها المغتال في الحرب، بكت لأنّه لا مؤنس لها سوى دموعها..
فجأة تنهّدت، أمسكت الورقة وبدأت بتمزيقها إنّها اللعنة التي تسامر كبريائها كالعادة.
فجأة رنّ الهاتف على صوت رسالة..
الرّقم مجهول؟!
ترى ممّن؟؟
تعالي..
لم أعد عصبيا، صرت سهلا مثل إعراب الجملة الاسمية،
صرت صادقا دوما أقول الحقيقة، لا أنكث عهدي، ولا أؤجّل وعدي..
تعالي ..
خذي القرارات كلها، خدي النّسيم، خذي قلبي ضحية، لن أبكيك ولن أكرهك كذبا، اغضبي سأقول عفوك، اضحكي سأقول ما أجملك، اصرخي سأقول عاش جنونك، امرضي سأمكث قربك..
لكن تعالي..
فقد بدلت جلدي وحفظت تاريخ ميلادك
ابتسمت ببراءة طفلة وحلق قلبها البهي كحمامة سلام داخل وطن روحها المنهشة، قرأت الرّسالة مرة واثنان وثلاثة ثم حوّلت الرقم لقائمة الحظر..
أيّ أنثى تلك؟ وأيّ كبرياء هذا؟

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024