في زمنٍ يلهث خلف سراب التكنولوجيا ويغرق في تفاصيل الاستهلاك اليومي، يظلّ للذاكرة الإنسانية دورها الأعظم في حفظ جوهر الوجود ومقاومة النسيان.
إنّها ليست مجرد صندوق يختزن صورًا باهتة وأحداثًا عابرة، بل هي الوعاء الذي يمنح للأمة هويتها، وللفرد معناه، وللشعوب طريقها نحو البقاء. فالذاكرة هي المعركة الصامتة بين من يكتب التاريخ ومن يُمحى اسمه من صفحاته، بين من يصنع الخطاب ومن يُستبعد من الرواية الرسمية، بين الذاكرة الحيّة التي تصرخ لتبقى، والذاكرة المطموسة التي يُراد لها أن تنطفئ.
من يراقب المشهد العربي الراهن يدرك أنّ معركة الذاكرة هي الأشدّ ضراوة من كل الحروب الأخرى. ليست البنادق وحدها التي تُرعب الشعوب، ولا الحصارات وحدها التي تقتل الأمل، بل محاولات اقتلاع الذاكرة وتشويهها وتبديلها بروايات هجينة، تجعل الضحية جلادًا والجلاد صاحب «حقٍ مشروع». وهنا تبرز خطورة الذاكرة الجماعية، فهي ليست سردًا للتاريخ وحسب، بل فعل مقاومة وجودية، إذ تتحول إلى درع يحمي الشعوب من الاستلاب وإلى جسر يعيدها دومًا إلى جذورها الأولى.
إنّ استهداف الذاكرة ليس أمرًا عفويًا، بل هو سياسة مدروسة. فالاحتلال يدرك أنّ الجسد قد يُكسر لكن الروح التي تستمدّ من ذاكرتها قوتها لا تُهزم. لذلك تتفنّن القوى الاستعمارية في تغيير أسماء المدن، محو الشواهد، تزييف المناهج، وتدجين الأجيال الجديدة بعيدًا عن الحقيقة. غير أنّ الحقيقة، مهما غُيّبت، تبقى عصيّة على الموت، لأنّها تتوارث عبر الجدّات في حكايات المساء، وعبر الأغاني الشعبية، وعبر الصور المخبّأة في الأدراج القديمة، وعبر دمعة لاجئ لم ينقطع عن التحديق في مفتاح بيته الذي لم يصدأ.
ومن هنا تأتي أهمية المثقف الحقيقي، لا باعتباره شاهدًا محايدًا يراقب من برجٍ عاجي، بل كحارس للذاكرة، وفاعل في كتابتها وصونها، ومجابهة كل محاولات الاغتيال الرمزي التي تطالها. المثقف ليس ناقلًا لوقائع محفوظة، بل محاربًا في معركة الرواية، يستحضر الوثيقة حينًا، والشعر حينًا آخر، ليبقي الحقيقة متوهجة في مواجهة الظلام. وحين نتأمل في مسارات كثير من الأصوات الحرة، نرى كيف جعلوا من ذاكرتهم سلاحًا، ومن أقلامهم خنادق مقاومة، ومن خطابهم حصونًا منيعة ضد الزيف.
إنّ ما يُهدّد أمّتنا اليوم ليس فقط الاستبداد ولا القمع ولا الاحتلال، بل هشاشة الذاكرة وتبعثرها. حين ننسى تتحوّل جراحنا إلى أرقام بلا معنى، وتغدو القبور مجرد أحجار صامتة بلا أسماء، ويُختزل تاريخنا إلى حاشية في كتب الآخرين. لذلك، فإنّ استعادة الذاكرة ليست ترفًا فكريًا بل شرطًا وجوديًا للبقاء، شرطًا للحفاظ على هويتنا، وعلى حقنا في الأرض، وعلى إنسانيتنا ذاتها.
ولعلّ أبلغ ما يمكن قوله هنا أنّ الشعوب التي تتذكّر لا تُهزم. فالذّاكرة هي البوصلة في زمن التيه، وهي النبض الذي يعيد الحياة كلما حاول الموت أن يمدّ يده. من هنا، فإنّ مسؤوليتنا كأفراد ومثقفين وإعلاميين ومؤسسات، هي أن نُبقي جذوة الذاكرة متقدة، أن نكتب ونوثّق ونروي ونغني ونرسم ونقاوم، لأنّ الكلمة حين تُقال من قلب الذاكرة، تتحول إلى حجر في وجه المحتل، وإلى صرخة في وجه الصمت، وإلى وعدٍ للأجيال القادمة أنّها لن تولد في العتمة.
إنّ التاريخ يُكتب كل يوم، والذاكرة تُصان كل لحظة، والمستقبل يُصاغ بما نتركه من شهادات وكتابات وصور وصرخات. لذلك فإنّ المعركة لم تنتهِ، ولن تنتهي ما دام ثمة جيل يؤمن أنّ ذاكرته ليست مجرد ماضٍ يحنّ إليه، بل حاضر يقاوم به، ومستقبل يصنعه.