شهادة أسير فلسطيني عن الألم والأمل

للسّجـــن مـــذاق آخـــر..

بقلم: فلسطين أبو زهو

«نأكل لنبقى لا لنتذوّق..لا تسرح بعيدا بطعم الأكل ورائحته ولا بأصله..فقط، كُل ولا تفكّر»- الأسير المحرّر أسامة الأشقر

 حين نتحدّث عن تجربة نشأت بين جدران السجن، فهذا يعني سردا لتجربة شخصية، وتوثيقا تاريخيا، وشكلا من أشكال المقاومة والصمود، ورسالة تصدح بمعاني الحرية والكرامة.
وفي هذا السياق، صدر كتاب «للسّجن مذاق آخر» للكاتب الفلسطيني الذي كان أسيرا في سجون الاحتلال أسامة الأشقر، عن دار الأمانة العامة، الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين في رام الله عام 2020، وبدأ بالإهداء إلى روح والده، ومقدّما الشكر والامتنان إلى منار، النجمة التي أضاءت سماء السجن وأدخلت النور إلى زنزانته.
وقد اعتقل الأشقر عام 2002 وأفرج عنه في صفقة تبادل الأسرى عام 2024. لذا، فالكتاب يلخص تجربة الاعتقال وسردا للمعاناة في السجن، غير أنّه تجاوز السّيرة الذّاتية ليقدّم صورة أوسع عن الحياة داخل السجون.
كتب المؤلف والأديب المتوكل طه في مستهل الكتاب مقدمة يقول فيها: «إنّ الكتاب يسد ثغرة في جدار روايتنا، التي لم نكتبها تماما»، وإنّ أدب السّجون حتى اللحظة لم يستطع أن يؤصل تاريخ الحركة الأسيرة بقدر ما أضاء بعض الجوانب المتعلقة بالأسرى منذ اعتقالهم مرورا بسنوات الحجز المهولة، وصولا إلى الحرية والخروج إلى الحياة.
الأشقر، الفلسطيني المحكوم عليه بـ 8 مؤبدات و50 عاما، تحدث في مجمل كتابه عن المجهول، وهي لحظة الاعتقال التي لم يتوقّعها أبدا، ثم انتقل للحديث عن التحقيق والتحرك بالعربات الفولاذية إلى معسكر الجيش، وما يتخلّله من شتائم وإهانات وإذلال.
يحكي الكاتب تناوب محقّقين في مساءلته، أحدهما شرس عصبي، والآخر يدّعي طيبة القلب واللطف لنيل اعتراف من السّجين! وفي حال لم يتمكنوا من ذلك، يرسل السجين إلى غرفة العصافير «العملاء»، وهي تشبه أي غرفة للسجناء، يحاولون فيها قدر جهدهم، للحصول على أي معلومة وإرسالها إلى المحقق.
ثم يتحدّث الأشقر عن «البوسطة»، وهي عربة تقل السجناء من السجن إلى أي مكان آخر، كالمحكمة أو مشفى الرملة. وتبدو من الخارج وكأنّها من الطراز الأول، غير أنّها من الداخل علبة مرعبة، مقاعدها حديد ناتئ، تتعب الظهر والحوض. وقد تستغرق التنقلات بين السجون والمحاكم يوما أو يومين، يوضع الأسرى خلالها في «المعبار»، وهو مكان على شكل أقفاص كأنهم حيوانات!
يحكي الأشقر كم هي معاناته، وكم كان صعبا وشاقا أن تقيد قدميك كلبشات، وتفصل بين القدم والقدم الأخرى حلقات سلسلة لا يتجاوز طولها 3 سنتيمترات، تمتد السلسلة لتنعقد بأسير آخر وهكذا. معنى ذلك أنه في حال تعثر أحدهم في المشي أو توقف فجأة، فهناك من سيسقط، وهناك من سيصرخ من شدة الألم.
أمّا عن مصطلح «حوفيش بأكاف»، فهو مصطلح عبري يعني ممرّض القسم، لا شيء في حوزته عدا حبات المسكن، أما الحالات المزمنة فإنها تحال بعد مشقة للعلاج في سجن الرملة، الذي تسبب في قتل كثير من الأسرى، حتى أطلق عليه مقبرة الأحياء. تناول الأشقر في كتابه الاستحقاقات التي ينالها الأسرى بفضل تعاونهم في إنجاح الإضرابات التي بادر لها رواد الحركة الوطنية الأسيرة منذ نهاية الستينيات من القرن المنصرم. كما تحدّث الكتاب عن القمعة، وهي أسلوب متبع لإذلال وضرب الأسرى على حين غفلة منهم.
ثم يتحدّث عن معاناة زيارة الأهل للأسير، بعد تجمع أهالي الأسرى عند مناطق الصليب الأحمر، ومن ثم التفتيش والانتظار لساعات إلى أن تحين فرصة اللقاء. يفصل بين السجين وذويه معدن ولوح زجاجي وهاتف للحديث. يستفيض الأشقر في وصف لحظات الوجع عند تلقي الأسرى أخبارا تتعلق بموت أحد أفراد الأسرة، كنبأ وفاة فاطمة، الابنة الصغرى للأسير يحيى النمر، ووفاة أم الأسير حازم مسلماني...إلخ.
يتعرّض الأسرى للعزل الانفرادي، وهو أقسى أنواع العقوبة، حيث يتم عزل الأسير في مكان ضيق لا يوجد فيه غير سرير ومكان لقضاء الحاجة. يجتمع أكثر من 100 أسير في قسم، وفي كل قسم 15 غرفة، مع غياب تام للخصوصية واختلاف في الطباع والصفات الاجتماعية والتربوية، إضافة إلى الضغوط النفسية والجسدية التي يعانيها الأسرى، وما يترتب على كل ذلك من مشاحنات وخلافات يغذيها جهاز الشاباك.
يتعاظم الحزن أكثر مع مجيء العيد، يحصون سنوات الأسر بالأعياد، يحلّقون ذقونهم ويغتسلون كنوع من الترحاب، يصلون صلاة العيد في الباحة، ويكبرون بصوت خفيض، ثم يتبادلون التحية قبل أن يعودوا إلى غرفهم وأوجاعهم من جديد.
ومن المغامرات التي يخوضها السّجناء بكامل إرادتهم، تهريب قطع الهاتف المحمول، الذي لا يزيد حجمه على حجم إصبع اليد، يتحدث عبره 100 أسير، لكل واحد 10 دقائق في الأسبوع. في نهاية الكتاب، يشاطرنا الأشقر حكاية عشقه لفتاة تدعى منار، أحبها عبر الأثير، وهي تنقل التحايا للأسرى. تكلّل هذا الحب بعقد قرانه عليها في اليوم الذي يصادف ذكرى أسره الـ 17 يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
خرج الأشقر في صفقة التبادل الأخيرة عام 2024، وهو الآن منفي. يهدف الكاتب إلى توثيق تجربته ونقلها للعالم، وهو يساعد كثيرا في صياغة التحديات أمام العقد التي يخلفها السجن على النفس البشرية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19861

العدد 19861

الخميس 28 أوث 2025
العدد 19860

العدد 19860

الأربعاء 27 أوث 2025
العدد 19859

العدد 19859

الثلاثاء 26 أوث 2025
العدد 19858

العدد 19858

الإثنين 25 أوث 2025