الدامـون

فضيحــة إنسانيــة معلنـة خلف القضبـان

بقلم: بن معمر الحاج عيسى

 في زمن يزعم فيه العالم الدفاع عن حقوق الإنسان، يظل صمت المجتمع الدولي أمام ما يجري خلف أسوار سجن الدامون وصمة عار لا تُمحى، فهناك لا تُقاس المعاناة بالساعات أو الأيام، بل بالصفعات على الوجوه، والأغلال على الأيدي، والحرمان من أبسط مقومات الكرامة.

 هناك حيث تتحوّل الزنازين إلى مقابر للأحياء، وحيث تُختبر حدود قدرة الجسد على الصمود والروح على البقاء، تسكن حكايات نساء قررن أن يواجهن السجان بصلابة لا تنكسر، وأن يصرخن في وجه القهر حتى وإن كان الجدار هو المستمع الوحيد، في ظلمة سجن الدامون، حيث الجدران الباردة تتواطأ مع صمت العالم، ترزح عشرات الأسيرات الفلسطينيات تحت وطأة ممارسات تتجاوز حدود الوحشية وتنزع عن الإنسان حقه في الكرامة والحياة، إذ تمارس سلطات الاحتلال سياسة ممنهجة للإذلال والقهر تبدأ منذ اللحظة الأولى لدخول الأسيرة بوابة السجن.
هناك لا يستقبلها سوى تفتيش جسدي مهين ومذل تُجبر فيه على التعري الكامل أمام سجانات أو حتى سجّانين في بعض الحالات، في انتهاك صارخ لكل ما هو إنساني، قبل أن تُصادر بالقوة أغراضها الشخصية بما في ذلك الجلباب والحجاب ليُفرض عليها ارتداء ملابس موحّدة لا تحمل من الراحة أو الاحترام شيئًا.
وكأنّ الهدف هو محو هويتها الدينية والثقافية والنفسية منذ اللحظة الأولى، داخل الزنازين المشهد لا يقل قسوة، غرف مكتظة تفتقر إلى التهوية والنظافة، جدران متّسخة، أرضيات رطبة، أسِرّة حديدية بفرش بالٍ لا يقي برد الشتاء ولا حرارة الصيف، الشمس محرّمة والهواء النقي ممنوع ما أدّى إلى معاناة كثير من الأسيرات من أمراض جلدية وحساسية مزمنة، ونقص حاد في فيتامينات أساسية.
إلى جانب تساقط الشعر وضعف المناعة، كاميرات المراقبة موجودة داخل الزنازين نفسها، والأبواب لا تغلق بإحكام في الحمامات ما يحرم الأسيرات من أبسط حقوق الخصوصية، ويجعل الشعور بالانتهاك حاضرًا على مدار الساعة، المأساة تتضاعف حين تكون الأسيرة حاملًا أو مريضة.
تمّ توثيق حالات لنساء حوامل تم تقييد أيديهن وأرجلهن بالسلاسل خلال نقلهن لتلقي العلاج أو حتى أثناء الولادة، في مشهد يجمع بين القسوة الجسدية والعقاب النفسي، الإهمال الطبي ليس عارضًا بل سياسة ثابتة إذ يُترك المرضى بلا دواء، وتؤجل العمليات الجراحية أو تلغى حتى في الحالات التي يشخّص فيها الأطباء خطورة وضع الأسيرة.
هناك من فقدت حياتها داخل السجن بسبب هذا الإهمال، حيث تأخر العلاج أو مُنع تمامًا ليصبح الموت نتيجة طبيعية للإهمال المتعمد، الغذاء المقدم لا يصلح للإنسان، وجبات قليلة الكمية رديئة النوعية أحيانًا باردة أو ملوثة تفتقر إلى أي قيمة غذائية، ما يتسبب في أمراض هضمية وسوء تغذية، مستلزمات النظافة الشخصية خصوصًا تلك الخاصة بفترة الحيض تُمنح بكميات شحيحة أو تُحجب تمامًا كوسيلة للعقاب، بينما يُمنعن أحيانًا من الاستحمام لأسابيع خاصة في الشتاء ليتحول الجسد إلى عبء مضاعف من الألم والحرج.
الاعتداءات الجسدية والنفسية تمثّل فصلًا أسود آخر من معاناة الأسيرات، حيث يُمارس الضرب المبرح باستخدام الأيدي أو الهراوات مع الركل والصفع وأحيانًا جرّ الأسيرات على الأرض، الشتائم البذيئة والإهانات الدينية والجنسية حاضرة في كل مواجهة مع السجّانين، وبعض الأسيرات تلقّين تهديدات مباشرة بالاغتصاب خلال جلسات التحقيق أو أثناء التفتيش.
هذه التهديدات لا تستهدف فقط الجسد بل تنفذ إلى الروح لتترك جرحًا نفسيًا عميقًا قد لا يلتئم أبدًا، المداهمات الليلية المفاجئة للزنازين أصبحت جزءًا من أسلوب إدارة السجن، حيث يتم إيقاظ الأسيرات بالقوة وإخراجهن إلى الساحات في ساعات البرد القارس أو تحت المطر بملابس خفيفة وحرمانهن من الماء والطعام لساعات طويلة، العزل الانفرادي أو الجماعي أداة عقاب أخرى، إذ يتم فصل الأسيرات عن بعضهن البعض أو إلصاق حواجز على أبواب الزنازين لمنع التواصل البصري أو الكلام في محاولة لتحطيم الروح الجماعية والصمود المشترك.
العزلة لا تقتصر على داخل السجن بل تمتد إلى الخارج، حيث تُحرم الأسيرات من زيارات العائلة لفترات طويلة، وتُمنع لقاءات المحامين وحتى المنظمات الإنسانية تُمنع من الدخول أو الاطلاع على أوضاعهن، هذا الانقطاع التام عن العالم الخارجي يحرم الأسيرات من أي شعور بالأمان أو الأمل، ويتركهن وجهاً لوجه مع قسوة الجدران.
كل هذه الممارسات تمثل خروقات صريحة لاتفاقيات جنيف ومواثيق حقوق الإنسان، التي تحظر التعذيب والمعاملة القاسية أو المهينة، وتكفل الحق في العلاج والرعاية الصحية والحق في الكرامة والحرمة الجسدية والنفسية، غير أن سلطات الاحتلال تمارس هذه الانتهاكات كجزء من سياسة ممنهجة لكسر إرادة الأسيرات وإخضاعهن، مستندة إلى شعور بالإفلات التام من العقاب في ظل صمت دولي مريب. لكن على الرغم من هذه الظروف الجحيمية، فإن الأسيرات الفلسطينيات يواصلن الصمود بطرق مذهلة من خلال دعم بعضهن البعض، وتنظيم أنشطة ثقافية داخل الزنازين، وحفظ الشعر والنصوص الوطنية عن ظهر قلب، وتحويل جدران السجن إلى مساحات للرسائل الخفية وكأنهن يصرخن بأن الجدران لا تستطيع أن تسجن الروح، لقد تحولت كل واحدة منهن إلى أيقونة للمقاومة، شاهدة على جريمة لا تسقط بالتقادم، ورسالة حية للعالم بأن الحرية ليست منحة بل حق ينتزع، وأن الكرامة مهما تعرّضت للانتهاك تبقى عصية على الانكسار.
وهكذا يظل سجن الدامون شاهدًا على جرح مفتوح في ضمير الإنسانية، حيث يلتقي القهر المادي والنفسي في مكان واحد، وتتحول الأسيرات إلى أسرى حرب يخضن معركة يومية من أجل البقاء والحفاظ على ما تبقى من إنسانيتهن، ورغم أن الجلاد قد ينجح في مصادرة الجسد، فإنه يفشل في إخماد شعلة الإرادة التي تظل مشتعلة في القلوب تنتظر اللحظة التي تتحطم فيها القضبان، وتخرج الحرية من بين الركام لتعلن للعالم أن الظلم لا يدوم، وأن الدامون مهما طال ليله لا بد أن يشرق عليه فجر الحرية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19860

العدد 19860

الأربعاء 27 أوث 2025
العدد 19859

العدد 19859

الثلاثاء 26 أوث 2025
العدد 19858

العدد 19858

الإثنين 25 أوث 2025
العدد 19857

العدد 19857

الأحد 24 أوث 2025