وُلدتُ في بيتٍ يُحب البنات، بيتٍ كبيرٍ تحفّه الحكايات، وتُظلّله سكينة العائلة ودفء القلوب. كنت الطفلة الوحيدة بين أولاد عمومتي، مدلّلتهم، زهرة صغيرة تتنقّل بين الأذرع، وكلّهم يحيطونني بالرعاية...لكن أحدهم كان الأقرب إلى قلبي: جدّي. كان يخصّني بركنٍ صغير في البرندة، يرفعني برفق، يضعني على حافّة الشباك، يركن عصاه جانبًا، ويبدأ بالتصفيق والغناء:
«سجّان أبوك يا سجن...ومفارق أحبابي
واللي ما عنده حزن...يبكي على شبابي”
كنت أُردّد خلفه، أتعثّر في الكلمات، أضحك حين يضحك، وأحدّق في عينيه التي كثيرًا ما كانت تلمع دون أن أفهم السبب. لم أكن أعلم أن الأغنية كانت وجعه، وأن صوتي الطفولي كان يُوقظ فيه حزنًا دفينًا اسمه: الأسير…ابنه، عمّي.
كان جدي يبتسم لي دومًا، لكنه يخبّئ دموعه حين تقترب منه العيون. لم أكن أفهم، ولم أكن أحتاج إلى الفهم…كنت أغنّي، وأُحبّ تلك الأغنية، أطلبها منه كل يوم، وهو لا يردّني أبدًا، ولو كلّفته دمعًا.
ثم كبرتُ قليلًا، ودخلت المدرسة.
وفي الصف الأول، أعلنوا عن “اليوم المفتوح”، واختارت المعلّمة أغنية “طيري طيري يا عصفورة”، لنُشارك بها كصفٍ صغير.
لكنّني رفضت، وأصررت:
«نُريد أن نُغنّي (سجّان أبوك يا سجن)”.
اقتربت منّي المعلمة وقالت بابتسامة حزينة:
«تلك الأغنية نُخصّصها ليوم الأسير الفلسطيني”.
أجبتها بعفوية:
«لا بأس، نُغنّيها الآن، وسأغنّي طيري طيري في المرّة القادمة”.
رضيت، وبدأنا نتدرّب، أنا وزملائي. نضحك، نركض، نغنّي، وكانت أروقة الصفّ تمتلئ بضحكاتنا، لكنّي كنت أرى شيئًا حزينًا في عيني معلمتي، ظللتُ أجهله. وفي اليوم المنتظر، ارتديتُ فستاني الأبيض، صفّفت أمي شعري الطويل، قبلتُ جبين جدّي، وقلت له بحماسة:
«سأُغني لك اليوم…استمع إليّ”
ضحك، قبّل خدّي، وربّت على رأسي بصمتٍ عميق.
بدأ الحفل. وقفنا جميعًا نُنشد النّشيد الوطني:
«فدائي...فدائي...
يا أرضي يا أرض الجدود...”
ثم تحدّثوا عن الأرض، عن الزيتون، عن الأسرى، عن القدس،
وحين حان دور صفّنا، صعدتُ المنصّة.
اقتربت من الميكروفون، وبدأنا نغنّي:
«عمري قضيته بسجن...يا الله ويش الحال
والسّجن لي مرتبة...والقيد لي خلخال
والمشنقة معلقة...مشروحة للأبطال”
كنت أُلوّح بيدي، أبتسم، أدور بفستاني الأبيض،
بينما كانت المعلمة وبعض الأمهات…يبكين.
سألت نفسي: “لماذا؟ نحن نغنّي!”
وهم يبكون!!!!
وحين انتهينا، ركضت إلى معلّمتي وقلت لها:
«لا تبكي…في المرّة القادمة سنُغني طيري طيري يا عصفورة”
ابتسمت، ومسحت دمعتها، وقالت: “ماشي”
وتمرّ الأعوام…
ويأتي يوم 15 تشرين الثاني 2000
فأُغنّي الأغنية ذاتها،
لكن وحدي…وبدموع لا تنضب.
الآن فقط، فهمتُ معنى الأغنية.
فهمتُ لماذا كان جدي يبكي في صمت،
ولماذا كانت تلك الكلمات تحفر داخله جرحًا لا يُشفى.
فهمت أنّ خلف كل كلمة،
كان هناك وجهٌ غائب…
اسم لا يُنطق كثيرًا…
عمي الأسير.
عرفت السّجن لا ككلمة…بل كقيد.
عرفت أنّ الأغنية لم تكن لحنًا…بل وجعًا يقطر من حناجرنا.
وأن جدّي، المختار القوي،
كان يُخفي ضعف الأب الذي لا يستطيع أن يُحرّر ابنه من خلف الجدران.
«يا رافعين العلم...علوّوا العلم لفوق
وافتل يا شعب الألم...عبّي القلب بالشوق”
كبرت أنا…
وكبرت معي الأغنية، لكن نغمتها تغيّرت.
صارت تُشبهني…صارت تبكيني.
«لأطلع عرّاس الجبل...وأشعل الفانوس
وقع من إيدي وانكسر...لأقضي عمري عبّوس”
انكسر الفانوس يا جدّي…
وانكسرت طفولتي معه.
لكنّي ما زلت أغنّي،
وأُخفي دمعي كما كنتَ تفعل،
وأحمل وجعي بصوتٍ هادئ،
يشبه الوطن…ويشبهك.