وجها لوجه، المنكوبون والنازحون والمطرودون من حياتهم، يلتقون مع حياتهم مرة أخرى، يتجاوزون حدود الهزيمة ويواجهون الدخيل والناهب والسارق والأرض الجريحة، هنا صوت لا زال يتنفس في المكان، فرح حزين يستقبل العائدين الذين جرفوا من بيوتهم عام النكبة. بعد النكسة عام 1967 قرر المناضل القائد بشير خيري أن يزور بيته في مسقط رأسه مدينة الرملة، بيت الطفولة والأجداد، ركب الباص من رام الله إلى الرملة، خرج من قاعة عرض مسرحية حفلة سمر من أجل خمسة حزيران للكاتب سعد الله ونوس، رفض أن يبقى متفرجا على أرض المسرح المذبوح، أنا الحقيقة الواضحة، أنا اللاجئ والأسير والمقاتل والمنفي والعائد، قال بشير، لملمت كل هذه الفجائع وحملت ذكرياتي وشهادة ميلادي وكوشاني وعدت إلى مديتني الرملة، أوجاعي دليلي، جسدي يرتعش، ولن يهدأ حتى أعثر على بيتي وكفي التي مزقتها قنابل العصابات الصهيونية منذ أن كنت طفلا ألعب في شوارع الرملة، سأجد كل شيء هناك، بيتي وظلالي ويدي وأصابعي فوق التراب.
وأنا أقرأ مذكرات خفقات ذاكرة للمناضل بشير خيري، رافقته خطوة خطوة، كلمة كلمة، كنا معا في سجن رام الله في بداية الثمانينيات، وهناك ودعنا الشهيد خليل أبو خديجة الذي طوى روحه بين النافذة والسماء المسيجة، والتقينا مرة أخرى في بداية الانتفاضة الأولى عام 1987 في سجن عتليت الرهيب، وكانت ليلة باردة، نمنا على فرشة متعفنة، كان بشير هادئا مبتسما، يراقب بصبر عربدات السجانين المسلحين بالغاز والهراوات وهم يفتشون بكل جسد عن الحجارة في قلب الانتفاضة، ورحلت معه إلى سجن جنيد في نابلس، وهناك قررت سلطات الاحتلال إبعاده إلى الخارج مع أربعة آخرين وهم جبريل الرجوب. وحسام خضر وبشير نافع وجمال جبارة.
وكانت من أصعب لحظات الوداع، وقف الأسرى جميعهم على الأبواب، مر المبعدون من بيننا، وبدأنا نهتف: نعم لن نموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا، وغادرنا بشير، ولما عاد من المنفى عثرت عليه في مدينة رام الله، كان يجلس في ساحة اعتصام أهالي الأسرى، صافحته بحرارة، قال لي: لقد استعدت بيتي وكفي في الرملة.
رفض بشير خيري أن يبقى ضائعا وتائها كسعيد أبي النحس المتشائل في رائعة اميل حبيبي، ورفض أن يبقى صامتا ولا يقرع جدران الخزان في رائعة غسان كنفاني، كان يدرك أن الحروب لها اتجاهات متعاكسة، وأن الذي يحسب أن النكبة طمست المكان والهوية فهو المهزوم الذي تخلى طوعا عن البطل الكامن في عيون الضحية.
لن أعبر شرقي النهر مرة ثانية، سأذهب إلى الرملة، وأركب في الباص من القدس، لا زالت ذاكرتي تتدفق وحيّة، أتبع أحلامي فأراها، وتتبعنا حتى يصحو التاريخ في عظامي، وقد وصلت الرملة، قطعت هذا الطريق الطويل، انفجرت روحي من حطامي، هنا المدرسة الثانوية، الدير، الجامع، سوق الخضار، دار البلدية، ديوان العائلة، النبي صالح، هنا كنت العب الكرة، وهناك زيتونة أصاغت كلامي.
دق بشير خيري على باب بيته، وقال لدالية اليهودية التي فتحت الباب” أنا صاحب هذا البيت، جئت كي استعيده وأراه، وكانت الصدمة والدهشة، دالية استقبلته بحيرة وإرباك، من هذا القادم الذي يقتحم عالمها؟ لا يحمل سلاحا وإنما ذاكرة، سقطت هشاشة الصورة، وتناثرت على عتبات البيت كل الأسئلة.
قال بشير: لو كل فلسطيني دق باب بيته لاستعاد ذاته المكسورة، البيت هو الوطن، والبيوت تموت إذا غاب سكانها كما قال محمود درويش، اذهبوا إلى بيوتكم، واكشطوا الأسماء على الخرائط الصهيونية لتظهر فلسطين الممحوة، أزيلوا أشجار الصنوبر لتظهر تحتها القرى المدمرة، اقتحموا الكولونيالية من الداخل، أزيلوا الوهم من رؤوس الصهاينة وايديولوجيتهم الاستعمارية، الفلسطيني ليس بغائب، إنه موجود وحاضر وحي.
دالية اليهودية شعرت أنها غريبة، البيت ليس لها، بشير يعرفه أكثر منها، الشبابيك وشجرة الليمون، حنفية الماء، المكان يتكلم معه بحميمية، البيت يراه ولا يراني، الماضي يعود مرة واحدة، التاريخ الفلسطيني دخل مع بشير منذ أن فتحت له الباب، أصوات إخوته وجيرانه وألعابه تتكلم معه، مشاعر وحنين وعناق وحب لم أتعلمها في المعسكر أو الجامعة، القادم إلى بيته ليس ضيفا، إنه صاحب ملكية، وذو حق غير قابل للتصرف.
بشير في بيته، يتفقد وسائده وملابسه وحجارته وأشيائه الصغيرة، يبكي ويعتذر عن تأخره، يسمع قلبه وينادي: هنا انفجرت العبوة التي زرعتها العصابات الصهيونية في يدي، هنا دمي يسيل على العشب والحصى، هنا ثوب أمي، رائحة القهوة، خبز الطابون، الشاي بالنعناع، وظل بشير ينادي: كيف يطردوني ويذبحوني وينامون مطمئنين في قبري؟
أدرك بشير أن هذا البيت، هذا الوطن لن يستعاد بدون صراخ ومقاومة، المفاتيح العتيقة، والكوفية والقمباز والدبكة الشعبية ليست بديلا عن حق العودة، العودة ليست خيالات فولكلورية. فمن يستولي على البيت يستولي على الثقافة والوعي يرتكب أبشع أشكال التطهير والإبادة، فانضم بشير إلى العمل الفدائي، وقضى أكثر من 16 عاما في سجون الاحتلال، ولما خرج من السجن، تحسس ندوبه على جسده، الجرح في يده، ووخزات الأسلاك الشائكة، ولما زارته دالية قالت، الآن أدركت أنكم أحق شعب بالسيادة أخلاقيا وإنسانيا على أرضكم، التي ما زالت شظاياها في أرواحكم متناثرة.
كانت شجاعة أخلاقية من دالية بالانحياز إلى الضحية، وكانت شجاعة أن تطلب من بشير ضرورة اقتحام المجتمع الصهيوني لتحرير وعيه من الخرافات والأساطير والفاشية، كي يقف أمام المرآة ليرى تاريخه الاستعماري العنيف، وكانت شجاعة أن يتبلور تيار فكري وسياسي صهيوني يدعو إلى الاعتراف بالنكبة، رغم أن هذا التيار بدأ يتلاشى أمام هول الإبادة الدموية في غزّة، حيث تتجدد النكبة، ويختفي صوت دالية في دوي القنابل والصواريخ وأكوام الجثث.
تكتب دالية: بشير خيري علمني أن هناك ارتباطا عميقا بين الفلسطيني والأرض وهذا ما نفقده نحن الصهاينة، إنه مخالف لكل ما تربيت عليه، لم أدرك أن في بيت بشير كل هذا الجمال إلا من خلاله، فقد شعرت أن بشير حرر البيت وحرر ضميري، وعلى الصهاينة أن يصبحوا أكثر إدراكاً لنكبته ويتمردوا على المستوى الرسمي الذي ينكرها، ولو فتحنا أبوابنا للاجئين واعترفنا أنهم من هذه الأرض، سنشهد تغيرا عميقا في طريقة تعاملنا مع بعضنا البعض، قادرون على العيش سوية جنبا إلى جنب وأن نكف عن القتال.
أنا دالية اليهودية، منذ أن دخل بشير بيته في الرملة شعرت أنني لست مالك هذا البيت، وأننا لم نأت لنسكن بيوت الفلسطينيين صدفة وإنما لمنع عودة اللاجئين إلى بيوتهم التي طردوا منها، لهذا قررت أن أعيد البيت إلى بشير، وإن لم أستطع بسبب قانون النكبة وقانون أملاك الغائبين، سأعقد شراكة مع بشير واتفاق بأن يتحول هذا البيت إلى روضة للأطفال الفلسطينيين في مدينة الرملة.