كنت قد اتفقت مع صديقي عبد الرحيم هنية على أن أزوره في المساء في شقته في عمارة المشتل، الواقعة في منطقة حي المرابطين، للحديث بشأن قضايا تتعلق بطرق تعليم الأطفال داخل المنزل في ظل الإبادة.
وقبيل المغرب بقليل، توجهت إلى العمارة، وفي أثناء الطريق، ظهرت لي خيام النازحين، ووجوه أصحابها الشاحبة، وقد اكتظت الشوارع الترابية بمئات الخيام لنازحين جدد قَدِمُوا من منطقة السلاطين ودوار أبو شرخ والكرامة، إذ لم يعد هناك مكان فارغ، إلى درجة أن الناس بدأت تعمد إلى إزالة الركام الضخم لنصْب الخيام المهترئة، وبعضهم قام بوضع شرائط قماش وقِطَع نايلون، وكذلك شوادر فوق أنقاض البيوت في مشهد يقهر القلب ويجرح الروح.
وحين وصلتُ إلى عمارة المشتل التي تم نسفها قبيل انسحاب الاحتلال من المنطقة، الأمر الذي جعل واجهتها الأمامية تنهار بصورة تشبه المثلث، وسقطت معها الشقق المطلة على بيتي القديم، وبينما أشيح بنظري تجاه الشمال، تأملت خياماً نصبها رفاق أخي فوق ركام بيتي، وكانوا يحاولون تسوية الأرض من أجل المبيت، وتحديداً في مكان شجرة التين الشهيدة وشجرة الليمون الضخمة التي لم تعد موجودة، وحينها راودني سؤال مخيف: كيف يمكن للقماش أن يحمي هؤلاء الناس من شظايا الصواريخ؟ والقذائف لا تتوقف عن الصراخ كل لحظة.
وصلتُ إلى مدخل العمارة، فانقبض قلبي، وارتجف جسدي إلى درجة أنني عدت بالذاكرة إلى الوراء؛ كيف كان هذا المبنى قبل عامين، وكيف هو الآن؟ لقد كان من أرقى العمائر في المنطقة، لكن بعد نسفه، صار موطناً للأشباح، ولسكان لا يجدون ملاذاً يهربون إليه، فقاموا باستصلاح بعض الشقق الموجودة في الجهة الجنوبية.
وتذكرتُ حينها أحد مشاهد فيلم تايتانيك؛ حين يأتي ليوناردوا ديكابريو (جاك) من الدمار والعبث، ويمشي بين أروقة السفينة، ثم فجأة يحدث “فلاش باك”، حيث يبدأ المشهد بإعادة نهاية الممر قبيل غرق السفينة، ويصعد البطل على الدرج في اتجاه “روز” التي أدت دورها كيت ونسلت، مع موسيقى تصويرية مؤثرة.
ولجت إلى المكان وقد صادفتني خربشات لجنود كتبوا بالعبرية عشرات الجمل والكلمات التي تتوعد العرب بالدمار والخراب، وأُخرى تشتم وتلعن المسلمين، وكلمات فاسقة تسخر من بقاء الفلسطيني وحيداً، بالإضافة إلى رسومات وشعارات لصبية مراهقين لا يعرفون معنى الألم.
صعدتُ على درج العمارة ودقات قلبي لا تتوقف..أريد أن أبكي؛ يا الله كيف جرى كل هذا؟ هل نحن في كابوس سنفيق منه عما قريب؟ وعتبات الدرج مدمرة، ولا توجد جدران لتحمي الأطفال حين ينزلون إلى الشارع من جهة الشرق، وهناك ثقوب كثيرة داخل شقق أُخرى، بالإضافة إلى دمار رهيب أعلى الطبقة الرابعة، ومع تلك الطبقة تنتهي أي فرصة للعيش، وأسأل نفسي مرة أُخرى: كيف يحصل هؤلاء السكان على المياه؟ كيف يرفعونها إلى أعلى وقد انهارت الأسقف العالية ودُمر بئر المياه الخاص بالمبنى؟ وصلت إلى شقة عبد الرحيم، التي وصفها لي بسهولة: “عالباب خربشات باللغة العبرية مكتوبة باللون الأحمر بتلعن شرفنا”.
ثم ضحك بفجاجة وكأنه لا يبالي بكل ما جرى. وعند الباب خرج الرجل الذي عاش معي تجربة الجوع في شمال غزّة، وكتبت عنه أكثر من مرة في كتابي “نزوح نحو الشمال”، فعانقته بحرارة حتى طفرت دمعات كثيرة على خدي، وكأنني لم أر الرجل منذ عقود.
إنه جفاف لا تملؤه العتمة أو الحجارة التي تحاصر الشقة، فقبّلني على رأسي ثم طلب مني الدخول. ولم أكن أعلم أن صديقي هذا يجهز مفاجأة لي، أم هل ينبغي أن أقول لنا نحن الرفاق الذين كنا نجتمع دوماً في بهو العمارة؛ فقد جمعنا من دون عِلْمِ أي منا، ففوجئت بجارنا الدمث عادل زكريا الفصيح (50 عاماً)، وهو صديقي الذي أوجع قلبي حتى كان لا بد من تسجيل الحادثة التي ألمّت به، كي تظل وصمة عار على جبين القتلة. فقد تحدّث إلينا عن حادثة استهداف العمارة التي يقطنونها في مخيم الشاطئ، بعدما نزحوا هرباً من الموت الذي لم يترك مكاناً في غزّة إلاّ واغتصب حيواته، إلى درجة أن التراب صار دماً، وكنتُ قد رأيت عادل آخر مرة في اليوم الرابع من الحرب، يمشي متعباً برفقة زوجته، ويحمل غالون ماء كبير، بينما كانت رحمها الله تحمل طعاماً بكلتَي يديها، ويسيران عند مدخل مدرسة خالد العلمي، إذ لم تكن المدارس قد دُمرت بعد، بينما تنتصب أبراج الفيروز بشموخ، لكنها بلا سكان.
حينها، سلّمتُ عليه ثم افترقنا حتى هذا اليوم. عادل، الموظف في بلدية غزّة، الهادئ الذي لا ينتمي إلى أي تيار سياسي، وصاحب الابتسامة الناعمة، والمحترف في لعبة الورق “الكوتشينة”، والمناصر لفريق ريال مدريد والأهلي، والمتزوج منذ سنة 2001، نزح إلى بيت عائلته في مخيم الشاطئ، قريباً من مخازن تموين وكالة الغوث، بحثاً عن الأمان حيث لا أمان في الأرض اليباب، ومكث مدة أسبوع فقط حتى جاءت ليلة الثالث والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2023، عند الساعة العاشرة والنصف ليلاً، الفاصلة في تاريخ حياته الطويل، بعدما تم استهداف المبنى المكون من ست طبقات على رؤوس النساء والأطفال والرجال، من دون سابق إنذار، إذ استشهد في تلك الضربة أكثر من ثلاثة وسبعين شخصاً، بينهم عائلة عادل جميعها باستثناء ابنه يوسف؛ إذ تم استهداف المنزل بصاروخين ضخمين من طائرة حربية صهيونية، وكان عادل يجلس برفقة زوجته وأبنائه في غرفة واسعة، تطل على شارع عام، وطفلته إيلين ذات الثمانية أعوام تجلس في حضنه خوفاً من صوت القذائف والصواريخ، وحوله محمود الطالب في الصف الحادي عشر، ومحمد لاعب الكرة المحترف.
وتوقف عادل عن الكلام قليلاً، وكأنه تذكّر شيئاً مهماً، ثم قال لي بابتسامة تشوبها الحسرة: “ما زلت أذكر ابني محمد حين جاءني ذات مرة وأخبرني أن عليّ انتظاره في مدرجات ملعب اليرموك لأنه قام بتوقيع عقد احترافي مع نادي خدمات الشاطئ.” أمّا أحمد، فهو مهندس الكمبيوتر المبدع الذي كان يحلم بافتتاح شركته الخاصة في مدينة غزّة، وحاول العمل خلال دراسته من أجل ذلك اليوم، لكنه فقد حياته والأحلام الكبيرة.
تم ضرب الصاروخ، في لحظة خاطفة لم يشعر بها عادل كيف حدثت، ثم جاء الصاروخ الثاني، فشعر بأنه يهوي وعائلته إلى سابع أرض. حاول الهرب بابنته، لكنه لم يستطع فعل شيء، واكتشف أنه أسفل الركام، تُمْسِكُ إيلين بيدَيه بين الأنقاض، وقد أدرك أنها فارقت الحياة، لأن يدها صارت باردة جداً. ثم عرف باستشهادهم جميعاً حين أُخرست أصواتهم إلى الأبد، باستثناء يوسف الذي أُصِيبَ بكسور في إحدى يدَيه وقدمه اليسرى.
ويواصل عادل حديثه بهدوء كبير: “مكثت بين الركام أكثر من أربع ساعات أناجي الله، معتقداً أنني قاب قوسين من الموت، أفكر في زوجتي وأبنائي الذين غابت ملامحهم، وبقي صوتهم في داخلي يتسامر معي، ويعزز من صمودي، وكأنني في كابوس، وكنت عاجزاً عن الصراخ، لا أستطيع الرد على أي من الأصوات في الخارج، والتي تحاول معرفة إن كان هناك أحياء، كما فقدت الرؤية وأذني تؤلمني بشدة.”
وواصل وهو ما زال يعيش حالة من الذهول: “ربما الشيء الوحيد الذي تذكرته هو قصة سمعتها مذ كنت صغيراً عن شبان دخلوا مغارة، فأطبقت عليهم صخرة وظلوا عالقين هناك، يناجي كل واحد فيهم ربه بخير فعله في الدنيا، حتى فُتح لهم ثقب كبير كسبيل للنجاة، فصرت أهذي وأناجي الله: يا رب افتح لي من عندك باب نجاة كي أعيش سالماً لمن تبقّى من العائلة.”
كان الدخان قد اخترق مسام عادل وتغلغل في جسده، وكاد يغيب عن الوعي، حتى جاءت آلات جهاز الدفاع المدني عند الساعة الثانية والنصف فجراً، وكانت كلما حملت الركام، هوى بجسده أكثر وشعر بثقل يزداد على ظهره الذي ما زال يعاني جرّاءه حتى اللحظة، إلى أن بزغ النور في نهاية الأمر، فوصلوا إليه بصعوبة، فأخبرهم أن أبناءه شهداء، باستثناء يوسف الذي كان يئن، ثم طالبهم بعدم تحريك قدميه لأنه لا يشعر بهما، وعائلته تلتف حول جسده شهداء، وما إن خرج عادل، حتى تقيأ كل ما في معدته من سموم، بينما حمله الرجال مهرولين على الحمالة (شيالة) نحو الإسعاف.
وصل عادل إلى مستشفى الشفاء وقد كان في حالة لا تصفها الكلمات، ووضعوا له المحاليل والأجهزة الطبية، لكنه كان يتقيأ طوال الوقت، إلى درجة أن طبيباً أمر بنقله إلى غرفة غسيل الكلى، وبقي على ذلك الحال أكثر من ثلاثة أشهر، بينما ظل فاقداً للوعي أكثر من أسبوع لاحقاً، لا يعرف ما يجري حوله، معبراً عن العذاب داخل المكان الذي لا توجد فيه اللوازم الطبية الكافية، وفي ظل نزوح وسفر كثير من الأطباء إلى الخارج، وتكدُس للمرضى الذين يزدادون يوماً بعد يوم، صارت الأرض سرير مئات من الأجساد المدماة، تنتظر الخلاص من عذاب لا ينتهي.
لاحقاً، خرج صديقي من مستشفى الشفاء على كرسي متحرك بعد تهديد الاحتلال بالتوجه نحو المكان، ليبدأ رحلة نزوح لا تنتهي داخل شمال قطاع غزّة، وفي ذلك الوقت طلب من ابنه يوسف، الناجي الوحيد من المقتلة، النزوح إلى جنوب القطاع، لأنه لا يريد أن يفقده كما فقد إخوته.
خرجت بعد ذلك دمعة من عين الرجل الذي لم يحظ بفرصة وداع لعائلته ودفْنها في مقبرة تليق بحضورهم البهي، وأخبرني: “أنا أزورهم كل فترة في برية ‘البطش‘ في حي الشجاعية، في مقبرة جماعية، وأتحدث إليهم، على الرغم من خوفي من أن تصل أسراري إلى المقبورين في جوارهم، ثم أعاود الضحك كمجنون نسي أنه في مكان لا يليق بذلك الفعل، لأنني أتذكر ‘ملاكشة‘ زوجتي لي، وفرحتها عندما قمنا بشراء الشقة والعفش الجديد.”
عادل، الذي لم تكن الحياة عادلة معه، أخبرنا بجلسات الأسرة المسائية، وأنواع الأطعمة التي تحبها زوجته وأبناؤه، ولون الملابس التي ترتديها إيلين، وفرحة نجاح أحمد في الثانوية العامة، وطقوس العيد وشهر رمضان، وكأنهم يحلّقون حوله كملائكة يصنعون هالة من سكينة. ثم قال: “أمس حلمت بأن ابني محمود مفقود، وظللت أبحث عنه في الحلم حتى استيقظت وأنا ألهث خائفاً عليه، ثم تذكرت أنه قد استشهد، وذهب إلى السماء كنجم ساطع” ثم بكى، وظل يبكي ونحن نحاول أن نهدئه كطفل صغير، لكنه مضى مواصلاً الحديث، وكأنه كان في حاجة إلى أحد يسمعه بعد بقائه وحيداً في البيت، وخروج ابنه يوسف الدائم للمبيت والعيش في كنف عمته وأبنائها الذين يساوونه في العمر.
سألته عن مشاعره حين عاد يوسف من الجنوب، فعاد إلى الصمت، ساهماً في وجوهنا، وكأنه تذكّر شيئاً جديداً، فقال: “لا يمكن وصف الموقف بالكلام.
انتظرت ابني عند متنزه بلدية غزّة في الشيخ عجلين، وهناك رأيته، فصرخت إليه: ‘يوسف، يوسف، يابااا‘، وحضنته وكأنني لا أريد مفارقته، فبكينا سوياً، وكثيراً، وحولنا المئات يصرخون ويحضنون بقاياهم، بين الشمال والجنوب.”
عادل الذي أصيب لاحقاً عند استهداف منزل قريب من المسجد الغربي في مخيم الشاطئ، وقد غرق رأسه بالدم، وظن للحظة أنه سيُقتل بالقصف ذات مرة، يحلم بالحياة، ويبتسم لنا نحن الرفاق الذين حملنا أجسادنا وقررنا الهرب من شقة صديقي عبد الرحيم هنية، بعد استهداف قريب، وهو يختم حديثه بكل ثقة: “تقلقوش، كلكم راح تموتوا، بس بالدور.”
الإحباط في رسالته تلك كانت موجهة إلى العالم الذي لم يستطع عادل الصراخ في وجهه، فاكتفى بأن يقولها لنا ونحن نغادر على عجل.
عن الكاتب: يسري الغول: روائي فلسطيني يعيش في غزّة.