تستحضر مظلومية الأسرى الفلسطينيين شهادة الرئيس الأرغواني السابق، خوسيه موخيكا، الملقّب بـ عُزل Pepe، الذي قضى في سجون نظام الإرهاب السياسي والديكتاتورية العسكرية في الأرغواي نحو13 عاماً (1973-1985) بسبب انتمائه لحركة التوباماروس اليسارية الثورية.
مكث 10 سنوات منها في العزل الإنفرادي، وسبعاً دون قراءة كتاب، علاوة على استخدامه في بعض مفاصلها كرهينة أيضاً، مهدَّدَاً بالقتل في أيّ لحظة، في محاولة الديكتاتورية قمع المعارضة، تماماً كما يعيش الأسرى الفلسطينيون.
عُزل Pepe في قبو تحت الأرض، وحسب مذكراته المعنونة بـ”الثورة الصامتة - Calm Revolution”، فقد عاش بيبّيه قرابة السنتين في بئر عميقة، محروماً من أي تواصل إنساني، عدا الحديث مع الحشرات والضفادع، ويذكُرُ أنه قد طوّر استراتيجيات تبقيه على قيد الحياة، وقام بمحاولات للصمود والحفاظ على أهليته النفسية والذهنية، كمحاولته استذكار قصائد وأغانٍ يحافظ بتردادها على ذاكرته، كما أنه مارس إعادة كتابة نصوص في ذهنه، لكونه ممنوعا من القراءة والكتابة، أو تطويره نظام تواصل سرّي مع رفاقه كترميز الضربات على جدران الزنزانة.
جسدياً، وحسب مقابلة مع صحيفة الجارديان، وأفلام سيرته الذاتية، تعرّض بيبّيه لتجويع وتعطيش شديدين، اضطر فيها للتكيّف عبر ابتداع “ميكانيزم” صمود وحفاظ على آلته الجسدية وتركيبته البيولوجية. فحسب تصريحاته في فيلم جسّد سيرته الذاتية،(ii) اضطر بيبّيه في بعض المرّات إلى شرب بوله المعبّأ في قناني المبولة، بعد انتظار استكانة أملاحه.
وفي مقاربة لواقع الحال مع اختلاف لقسرية الفعْل وقساوته، وما يرشح لنا من شهادات أسرانا؛ أُجبر الأسرى الفلسطينيون على شرب بول جنود الاحتلال ضمن ممارسات التعذيب الممنهجة ضدهم، والتي تصاعدت وتيرتها أضعافاً بعد السابع من أكتوبر 2023.
أسرى حرب
قبل السابع من أكتوبر بعقود طوال، ناضل الفلسطينيون عبر المؤسسات الحقوقية في المحافل الدولية من أجل الاعتراف بالحالة القانونية للأسرى “كأسرى حرب” و«مقاتلين من أجل الحرية”، ومعاملتهم على هذا الأساس، وهو الأمر الذي رفضته السلطات الصهيونية القائمة بالاحتلال على الدوام، متذرعة بادعائها أن الأسرى “لا ينتمون لطرف في النزاع”، حيث باتت أرضية المعاملة في الإطار القانوني مختلة وعاقة حكماً، حتى بعد انضمام فلسطين لاتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة والبروتوكول الأول الملحق بها في 2014، وارتقائها إلى دولة طرف؛ إذ لم يعد للسلطات الصهيونية أي مسوغ قانوني يبرر عدم تطبيقها لإحدى الاتفاقيتين أو كلتيهما.
ما يجري على أرض الواقع، اعتقال الأسرى الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة بناء على التشريعات الجزائية وأنظمة الطوارئ التي كانت سارية قبل نكسة 1967، والتي يوظف الاحتلال ما يبغى منها مستنداً على قوانين الانتداب البريطاني -بما فيها الإداري(iii) العقيم- والقانون الأردني، فضلاً عن سلسلة من آلاف الأوامر العسكرية التي تطبقها قوات الاحتلال على الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وتلك المبتدعة التي تعكس حقيقة سلطة الصهاينة كنظام فصل عنصري، مثل قانون تامير، وقانون مكافحة الإرهاب وغيرها من القوانين التعسفية والمصممة بتعصب وعنصرية مفرطة ضد فلسطينيي الداخل، ما يزيد الهوة بين أسرانا وحريّتهم وينتزع حقوقهم في شتى الأمور الحياتية، وبالتالي، وبحكم التأطير القانوني الهجين للكانتونات المختلفة في عموم فلسطين المحتلة؛ تتقلّص مساحة الأسرى والمحررين منهم، في ممارسة مواطنتهم والتمتع بكامل الحقوق الدستورية الأصيلة من مدنية واجتماعية ونقابية.
تلك التي كفلها القانون الأساسي الفلسطيني وكافة القوانين الدولية، وتعتبر مدخلاً أولياً لحقوق الإنسان. أما على صعيد المعاملة، فلم تأبه سلطة الصهاينة أصلاً بشأن أصول معاملة المعتقلين الفلسطينيين، فلطالما كانت جزءاً من نظام استعماري يقوم على الأبارتايد، ترتكب ضد الأسرى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مطبقة عليهم كافة أساليب التعذيب والفوقية، كما حدث مع الأسير عرفات البرغوثي، وسامر العربيد، وعبد الرازق فراج، ويزن مغامس، وقسام البرغوثي، وغيرهم من المناضلين. والجدير بالذكر هنا، أن أصول المعاملة فرضتها الحركة الأسيرة بقوة وصلابة على إدارة مصلحة السجون، من خلال تنظيم نفسها بنفسها، وترتيب أمورها الحياتية، ما مكّن الأسرى من انتزاع حقوقهم اليومية، وأنّ جلّ ما حققته الحركة الأسيرة في السجون الصهيونية من إنجازات، جاء نتيجة نضالات ومعارك ودماء الأسرى وأمعائهم الخاوية في السجون.
تحويل الأسرى إلى رهائن
بعد السابع من أكتوبر، وتحت طائلة الحقد والانتقام الخالِصَيْن؛ جرّدت إدارة مصلحة السجون، وبإيعاز من المستوى السياسي وعلى رأسه إيتمار بن غفير (ما يسمى بوزير الأمن القومي الصهيوني الأسبق)، كافة الأسرى السياسيين من حقوقهم، وما حققته الحركة الأسيرة من إنجازات ونضالات في السابق، بل أسقطت عنهم الصفة الإنسانية، وتفنّنت بتعذيبهم في معسكرات الاعتقال العلنية والسرية، وبذلك؛ حوّلت منظومة الاحتلال الاستعمارية الأسرى إلى مجرد رهائن لدى مصلحة السجون، مستغلة الإبادة والنحر القائم في القطاع، ومتفرّغة بكل ما فيها من تلذّذ ساديّ على الأسرى، مع تبجّح جنود الاحتلال وتصويرهم مقاطع فيديوهات وبثها على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، توحي بكمية استمتاع غير آدمية على الإطلاق في عملية التعذيب، حيث أمعنت المنظومة - بكلّ مكوّناتها قصداً في إسقاط أقسى أشكال التعذيب والاضطهاد والدونية عليهم، ما يعكس - وبدلالة جميع استطلاعات الرأي الصهيونية الفادحة في مؤشرها مجتمعاً مريضاً، يروّج لقتل الفلسطيني ويهلّل لإبادته، مستكملاً جرائم الإبادة في مسارح السجون، وممعناً في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
بتحويل الأسرى إلى رهائن، تُحْكِمُ سلطة الصهاينة قبضتها عليهم وعلى عائلاتهم، مستخدمة قضيتهم كورقة للمساومة والابتزاز السياسي، وفرض سياسة الأمر الواقع، وتتركهم كي يَفْعَلَ بهم السجان ما يشاء، دون حسيب أو رقيب. وقد شكّلت روايات وشهادات المعتقلين، تحوّلاً بارزاً عَكَسَ مستوىً غير مسبوق في توحش منظومة الاحتلال وجرائم الإبادة الممتدة للسجون، والتي تنوّعت ما بين القتل، والتّعذيب، وعمليات التّنكيل والحرمان من أساسيات الحياة، وإطلاق الكلاب والتفتيش والضرب بالعصيّ والصعق بالكهرباء، والتّجويع والتبريد، بالإضافة إلى الجرائم الطبيّة الممنهجة، والاعتداءات الجنسية التي وصلت حد الإغتصاب، واستخدام الأسرى دروعا بشرية، وكل ما تدنو إليه وحشية وساديّة السجّان من جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي أدت وتؤدي إلى استشهاد العشرات من المعتقلين الـذين وصل عددهم إلى 63 شهيداً(iv).
هاغاناه Promax
بعيداً عن التوصيفات الإجرائية للحالة؛ وَحْدهم الأسرى يدركون بجلدهم يوميا،ً حقيقة أنهم رهائن عند عصابات صهيونية. وتعكس جميع شهادات الأسرى المحررين في الإعلام بِئْسَ ما عاشوه داخل قلاع الأسر، وأنهم رهائن لدى عصابات تتحكم بها مزاجيتها وحقدها المسبق تجاه كلّ ما هو فلسطيني، ما يجعلها في الحقيقة نسخاً محدّثة عن (الهاغاناه)، يدفعها الوهم بالحقّ في الوجود على حساب الفلسطيني، مع كامل الطمع بالإحلال مكانه.
تواطؤ الإعلام الغربي وضرورة وضوح الخطاب الفلسطيني
تشنّ ماكينة الإعلام الصهيونية حرب إبادة على الرواية الفلسطينية، مفبركة الحقائق ومشوّهة الأحداث التاريخية، وكأن أصل الحكاية بدأ في السابع من أكتوبر فقط، حيث تعمّم هـذه الآلة مصطلحاتها على الأبواق الغربية من الإعلام المتواطئ. وبالرغم من فيديوهات القصف والإبادة التي حدثت وتُنقل على الهواء مباشرة ومن الصور القبلية والبعدية التي خرجت لعشرات الفلسطينيين من الأسرى المحررين، إلا أن الإعلام الغربي يهمّش شهاداتهم، ويتعمد التعتيم عليهم، مضللاً وصول سردية دقيقة إلى الشعوب. إضافة لذلك، منعت الرقابة العسكرية الأسرى الصهاينة (من الجنود) و/أو الرهائن الصهاينة (من المدنيين) -إذا أردنا الاحتكام للقانون، بحكم اختطافهم ودعوى مقابَلَة الإفراج عنهم بآخرين وفق شروط معينة لدى فصائل المقاومة المختلفة، من الظهور الإعلامي والحديث عن تجربتهم في الأسر، ولم تسمح هـذه الرقابة إلا بمقتطفات مجتزأة ومركّبة، تهدف إلى تصوير آسريهم بالصورة التي يريدونها عنهم.
ولا ننسى كيف قدّمت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) اعتذارًا للصهاينة عن استخدام المذيع نيكي شيلر لفظة “السجناء” على الأسرى الصهاينة المحتجزين لدى فصائل المقاومة، وذلك خلال بث مباشر لعملية تبادل أسرى “ طوفان الأحرار”. وفي أعقاب ذلك، وبعد أيام وجيزة، لم يسكت اللوبي الصهيوني عمّا وصّفته القناة-بمجسّات رقابتها الشخصية بأنه “سقطة إعلامية” من ماكينة إعلام مساندة بالكامل لمنظومة الاحتلال، فجاء الاعتذار بعد ستة أيام من الحدث، ما ينبئنا بأهمية استخدام لغة مهنية واضحة ودقيقة مع ضرورة التأسيس لانتقاء مصطلحات سرديتنا في الحكاية، ما يدفعنا بوعي صرف، وبحكم المهنية وواقع الحال، لتبنّي مصطلح (رهائن) لتوصيف الحال بملء أفواهنا وبالبنط العريض، كأن نقول: “ لدينا 10.400 رهينة فلسطينية في سجون الاحتلال”.
الإخفاء القسري
وفي معرض الحديث عن الرهائن، وما تذوّقه بيبّيه وآلاف الأرغوانيين من إخفاء قسري، لا زال لدينا 10.400(v) رهينة فلسطينية في السجون، ناهيك عن الغزّيين المخفيين قسراً، حيث استحدث الاحتلال عدة معسكرات خاصة لاحتجازهم، أعدم جزءاً منهم إعداماً ميدانياً، بينما اقتاد في العراء آلافاً آخرين بعد أن حملهم بالشاحنات إلى معسكرات اعتقال إلى جانب السجون المركزية، مثل معسكر (سديه تيمان)، و(عناتوت)، ومعسكر استحدث مؤخراً في حيّز (عوفر)، وآخر يدعى (نفتالي)، واستحدث الاحتلال تصنيفاً جديداً لعذاباتهم وأطّرهم “قانونياً” بـتسميتهم (مقاتلين غير شرعيين).
وحسب هيئة الأسرى ونادي الأسير، لا يوجد تقدير واضح يحدد عدد المعتقلين من غزّة في سجون الاحتلال، في حين لم تتمكن المؤسسات الحقوقية حتى اللحظة من رصد عدد حالات الاعتقال من غزّة، في ضوء جريمة الإخفاء القسري التي فرضها الاحتلال على معتقلي غزّة منذ بدء الحرب، ويقدر عددهم بالآلاف.
على غرار المحارق التي مورست في معسكرات الاعتقال في فلسطين المحتلة، وعلى نحو مماثل تاريخياً؛ تعرّض السجناء السياسيون الأورغوانيون للتعذيب المنهجي في سجن ليبرتا(vi(Penal de Libertad، والذي كان من أكثر السجون شهرةً في قمع المعارضين، إضافة لقاعدة باسو ديلوستوروس العسكرية، ناهيك عن المعتقلات السرية التي كانت تديرها قوات الأمن والمخابرات. أمعنت الدكتاتورية العسكرية في ممارسة التعذيب على المعتقلين كتطبيق عملي لنظرية الصدمة(vii)، يعرِّض الفاعل – وهو المتحكّم بالبيئة والظروف الضحية (المفعول به) لتعذيب هائل يفوق درجة الاستيعاب، كضربٍ أقرب إلى الجنون، يتمكّن من خلاله الفاعل بإعادة تشكيل هوية المعتقل على النحو الذي يريده، كإعادة ضبط إعدادات العقل مرة أخرى والسيطرة عليها، أو برمجته من جديد وفق الأهواء. وتفنّنت الحكومة العسكرية في استخدام تقنيات التعذيب على معارضيها، كالصعق الكهربائي، وإغراق الرأس في المياه، والاغتصاب، والعزل والتجويع، تماماً كما يحدث مع الرهائن الفلسطينيين.
تمــاهي أدوات الاستعمــار في المعمــورة
حصلت حوادث مشابهة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؛ حيث مارست الديكتاتورية العسكرية في الأروغواي الإخفاء القسري على مستويات متقدمة عابرة لحدود الأروغواي، واختطفت الآلاف ونقلتهم إلى سجون سرية، كما سلّمت البعض إلى أنظمة دكتاتورية أخرى في أمريكا الجنوبية ضمن ما يُعرف بـ “عملية كوندور الجاسوسية”، والتي هدفت إلى اقتلاع اليساريين، والنقابيين، والكتّاب، والصحافيين، وحركات المقاومة التي كانت تعارضها. علاوة على النفي خارج الحدود، شاركت الحكومات المتواطئة من دول الجوار في أمريكا اللاتينية، وجارة كندا، وبعض الدول الأوروبية بالاغتيالات العلنية للشخصيات البارزة في المعارضة، وكذلك بشنّ حملة على السياسيين المنفيين في محاولة لتسليمهم إلى حكومات بلادهم ليتم تعذيبهم أو تصفيتهم، تماماً كما حدث لعمر النايف الذي اغتيل حتى بعد احتمائه في سفارة فلسطين في بلغاريا. وكما حدث في الأروغواي، فقد حدثت في بعض الدول ممارسات تعذيب وقتل، مثل جعل المعارضين السياسيين يتدلون من الطائرات أو رميهم في المحيط الأطلسي لإخفاء جثثهم، وهو ما يذكرنا بأسلوب التعذيب الذي استخدمته المخابرات الصهيونية مع المناضل الراحل نادر العفوري من نابلس لانتزاع اعتراف منه، حيث ربطوه بالحبال وأنزلوه من طائرة عامودية، وهي تطير به فوق قرى نابلس.
ويقدر عدد الذين لقَوا حتفهم قتلاً على يد الديكتاتورية الأرغوانية البوليسية وأتباعها في عملية الكوندور ما بين 50-80 ألف شخص، بينما تعرض 400 ألف شخص للاعتقال والتعذيب، وهناك 30 ألف مفقود لم يتم العثور على أثر لهم حتى اليوم، بالرغم من حملات المساءلة، التي سعت جاهدة لمحاسبة القتلة على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. نستدل من جميع ما سبق، ومع الإخفاء القسري لآلاف الغزّيين في حرب الإبادة، عن تماهي أدوات الاستعمار في أقاصي الأرض، واستخدامها ضد المناضلين.
وإلى الكربون تعود
وعلى نحو مماثل، وبعد وقف إطلاق النار المتعثر في القطاع، وعودة الغزّيين إلى الشمال، واجتيازهم محور “نتساريم” البغيض الذي يقسّم غزّة إلى قسمين؛ يجد الغزيّون في طريقهم الكثير من الهياكل العظمية لأشخاص أعدموا وباتوا مفقودين لدى أهاليهم، حيث لا حصر لهؤلاء، بالرغم من إعلان وزارة الصحة في قطاع غزّة عن فقدان 14 ألف شخص في عداد الشهداء، ناهيك عن أقسى اختفاء، لمن لن يكون له شاهدة قبر أو ما شابه، والذين يقدرّون بأكثر من حوالي 2.800 شهيدٍ في غزّة، ممّن أعلن الدفاع المدني عن تبخّر أجسادهم في الهواء، وتحرّرهم الكونيّ على هيئة كربون.
-يتبع-