السبيل لإصلاح المنظومة الصحية في الجزائر

شهادة طبيب جزائري في المستشفيات الأوروبية

د. مامن مبروك

كانت أول تجربة لي في المستشفيات الأوروبية سنة 2014، كنت حينها مقيما بتخصص الجراحة العامة بمستشفى أول نوفمبر بوهران وهو أكبر مستشفى جامعي في الجزائر بأزيد من 1200 سرير وربما في قارة إفريقيا كلها، مستشفى يضاهي المستشفيات الأوروبية من حيث التجهيز ونوعية الخدمات وحتى التسيير.
كنت حينها متوجسا من المستشفيات الأوروبية، خاصة فيما يتعلق بالفارق الهائل الذي كنّا نسمع عنه في المستوى العلمي والتجهيزات وغير ذلك من الهواجس التي تم زرعها في أذهاننا والتي اكتشفت لاحقا أنها مجرد عقبات تسييرية لا أكثر ولا أقل.
تقدمت حينها وأنا طالب مقيم في الجراحة العامة لمكتب البروفيسور رئيس المصلحة، التي كنت أعمل بها لأعلمه بقبولي في مصلحتين للجراحة من أجل تربص، الأولى في شمال فرنسا والثانية في المدرسة الأوروبية للجراحة بالمنظار ببروكسل ببلجيكا، وكان على رأسها البروفيسور كاديار وهو من الوجوه المعروفة عالميا في الجراحة بالمنظار ومن القلائل الذين شاركوا في تطوير هذه التقنية بشكل لافت. فرح أستاذي في الطب بذلك كثيرا وقام مباشرة بإمضاء تصريح لي بالذهاب في تربص لمدة شهور للمصلحتين. طبعا صادفت مئات العراقيل على جميع المستويات الإدارية ولكن يسر الله أن سافرت في ربيع 2014 إلى شمال فرنسا من أجل أول تربص لي خارج الوطن.
فور وصولي للمطار، كانت في انتظاري سيدة تم تكليفها من قبل المستشفى لاستقبالي. وهنا أول ما بدر في ذهني أن أول خطوة لابد لنا أن نتخذها هو أن يكون للطبيب في المستشفيات العمومية مكانة مثل هاته التي أحظى بها في بلد أجنبي.
اصطحبتني السيدة إلى المستشفى مباشرة وأمضيت على أوراق التربص، ثم توجهنا مباشرة إلى الإقامة، أين تم منحي شقة كاملة بجميع التجهيزات تبعد حوالي 100 متر عن المستشفى، ثم رجعنا للمستشفى وقامت السيدة باصطحابي لجميع المصالح التي تهمّني في عملي اليومي، فتعرفت على البروفيسور رئيس المصلحة وكل العاملين بها، بالإضافة إلى غرفة العمليات والإنعاش وقسم من الإدارة والمطعم وتم إعطائي جميع البطاقات المغناطيسية التي تسمح لي بدخول أي مصلحة أريد.
توالت بعدها التربصات والتكوينات حتى أصبحت مسجلا رسميا في قائمة الأطباء السويسريين، وهو التسجيل الذي يبقى ساريا مدى الحياة، ثم تعلمت بعدها الألمانية وبدأت العمل في أحد المستشفيات الألمانية تحضيرا لامتحان المعادلة، قبل أن أقرر العودة على عجل لأرض الوطن للمساهمة في مجابهة الوباء العالمي.
الشاهد من هذا، أن الطبيب أو حتى الممرض في أوروبا له مكانة خاصة وهو شيء مهم جدا... فالطبيب الذي يعمل في بيئة تحترمه، وأنا أتكلم عن الإدارة بصفة خاصة، يكون في وضع يسمح له بالعمل بتفانٍ وإخلاص ويمكنه ذلك من تطوير قدراته وينعكس ذلك مباشرة على طريقة تصرفه مع المرضى، فكل ضغط أو مشكل يتعرض له الطبيب قد تكون له نتائج سلبية على مرضاه بصفة خاصة.
توفر المستشفيات الأوروبية للطبيب كامل مستلزمات الراحة لعدة أسباب، ليست كلها كما كنت أعتقد إنسانية أو من اجل مكانته أو احتراما له، ما عاينته أن النظام الاستشفائي هناك هو نظام اقتصادي، أي أن للمستشفى مداخيل ضخمة من كل العمليات الاستشفائية والتمريض وحتى الخدماتية، كركن السيارات والأكل والشرب والإقامة وغيرها.
هذا ما يجب أن نفكر فيه بجدية، المستشفيات لابد أن يتم تسييرها كمؤسسات اقتصادية، المستشفى يقوم بتجهيز شقة كاملة لجراح، لأنه يعلم يقينا أن هذا الجراح سيقوم بعمليات نوعية تدر مداخيل ضخمة للمستشفى، والكل في ذلك مستفيد، فالمستشفى يطور تجهيزاته وخدماته من خلال هته المداخيل والعمال والأطباء يستفيدون من علاوات ضخمة من خلال ما يقومون به؛ يعني كل ممرض مثلا له دخل ثابت ثم عن كل عملية طبية يقوم بها يتم إدراجها في حساب العلاوة التي يتم منحها إياه؛ بمعنى آخر إذا عملت كثيرا تتقاضى كثيرا والعكس صحيح. وسأفصّل هذا في حلقة منفصلة وذلك لأن هناك تفاصيل كثيرة متعلقة بالضمان الاجتماعي وطرق تطبيقها هنا في الجزائر.
ما لاحظته أيضا هو العدد المحدود للعمال في جميع المصالح، وهو ما أدهشني فعلاً ولَم أكن أتوقعه. فلابد لنا أن نغير من نمط تسيير مستشفياتنا، التي تحوي عددا ضخما من العمال يتقاضون رواتب ولا يعملون شيئا، للأسف الشديد، أو عملهم محدود جدا.
أما في مستشفياتهم فكل عامل له مهمة محددة جدا، وهي ليست مهمة فضفاضة أو أوامر شفهية، فكل عامل لديه مجموعة من الواجبات أغلبها مكتوبة في دفاتر أو يتم شرحها للعامل عند أول لقاء للعمل... هاته الواجبات تكون محددة بدقة ومرتبطة بشكل مباشر بسير العمل في المستشفى بأكمله، يعني العامل لابد أن يكون في عمله على الساعة السابعة أو الثامنة حسب المستشفى وكل تأخر قد يعطل عمل مصالح بأكملها ولابد له أن ينجز كل واجباته بطريقة مرتبة وبتنسيق مع زملائه.
وبالتالي يستطيع المسير مثلا، أن يخصص لمصلحة معينة عاملين فقط بمهام محددة جدا، وهو الأمر الذي نفتقده في بلادنا، حيث تجد مصلحة بها عشرة عمال لا أحد يعرف ماذا يعمل والكل يعوّل على الآخر في عمله وتذهب الساعات ولا يتم إنجاز المهام المطلوبة وهذا أيضا سأفرد له حلقة كاملة حول تسيير الموارد البشرية في المستشفيات.
نقطة أخرى، هي أن استعمال الهواتف النقالة يكاد ينعدم في المصالح وذلك لأن ضغط العمل يحتّم ذلك، فالكل له مهمة لابد أن يقوم بها. وطبعا كل المهام تقريبا يتم تقاضي أجر عليها وبالتالي الكل يعمل بجد وبصمت ولا وقت للفضفضة واستعمال الهاتف، كما أن عملك لن تجد من يقوم به وإذا تعطلت أنت، تعطلت مصالح بأكملها من بعدك.
الدخول والخروج من المصالح الاستشفائية يتم بواسطة شارات مغناطيسية، بعضها لا يمكن العامل من دخول كل المصالح، كما أن استعمالها يقلص من الخروج قبل أوقات العمل، لأنها ترصد تحركاته وتدوّن في سجلات الإدارة ويتم خصم الراتب بصفة آلية معلوماتية ولا دخل لا للمدير ولا لمدير المستخدمين في ذلك، وبالتالي لا تجد أي عامل يذهب للإدارة من أجل الاستفسار عن الخصم من راتبه، فهو يعلم أن الآمر مسير بنظام معلوماتي، ما يجنّب المستشفيات الكثير من المشاكل مع العمال. فلقد شهدت شخصيا في مستشفياتنا الكثير من الظواهر الغريبة حقا، وصلت لحد إضراب العمال، لأن فلان قام بخصم من راتب فلان وهذا أمر مؤسف وسأتكلم عن ذلك بالتفصيل في حلقة خاصة.
الزيارات في المستشفيات الأوروبية منظمة جدا وأهل المرضى متفهمون جدا، وهذه نقطة مهمة جدا جدا. فكم من مرة كنت أحاول إنقاذ ضحايا حوادث مرور وكان فوق رأسي عشرات من أهل المريض الغاضبين، حتى أنني في مرة من المرات التفتّ لألبس قفازات وحين عدت وجدت أحد أهل المريض يقوم بالضغط على قلب المريض (massage cardiaque)، مع أن المريض في حالة مستقرة نوعا ما، وكاد أن يقتله ظنّا منه أنه في فيلم هوليوودي.
والشاهد من هذا، أن دخول المريض وتسيير وطريقة التعامل مع أهل المريض والزيارات، لابد أن يخضع لتدابير صارمة، أفردها في حلقة أخرى مفصلة، بإذن الله.
كانت هذه مقدمة لحلقات تأتي بالتفصيل، أحاول من خلالها استخلاص العبر وكل شيء مفيد من كل ما عشته من خلال تجربتي البسيطة في المستشفيات الأوروبية ومحاولة إسقاطها على واقعنا اليومي، حتى نتمكن من تطوير منظومتنا الصحية والتي تعاني بشكل قاطع، لا شك فيه، من مشكل عميق جدا في التسيير وأنا مقتنع تماما بقدرتنا على تجاوز كل هذا وإعادة ترتيب الأمور بشكل فعال جدا.
-يتبع-

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024