نخبة جيش التحرير الوطني

وحدات “كومندو” الولاية التاريخية الرابعة

عزیز خيـــثر جامعـة مولـود معمــري - تيــزي وزو
-قيادة أركان الولاية الرابعة - الوقوف من اليمين إلى اليسار: أعمر أوعمران، رشيد غرين، علي خوجة، إسماعيل عبد السلامي، رابح مقراني، أمحمد بوقرة، محمد زعموم - الجلوس من اليمين إلى اليسار: عبد الله بربار، عبد الرحمن لعــلا، محمــــد فـــراج، حســـــين البوشــــي، عبـــد القـــادر كبــــدي، (مجهـــول) -قيادة أركان الولاية الرابعة - الوقوف من اليمين إلى اليسار: أعمر أوعمران، رشيد غرين، علي خوجة، إسماعيل عبد السلامي، رابح مقراني، أمحمد بوقرة، محمد زعموم - الجلوس من اليمين إلى اليسار: عبد الله بربار، عبد الرحمن لعــلا، محمــــد فـــراج، حســـــين البوشــــي، عبـــد القـــادر كبــــدي، (مجهـــول)

علي خوجة.. شوكـــــة في حلـــق الاستعمـار

على الرغم من الانطلاقة الصعبة لجيش التحرير والمشاكل العديدة والتحديات الكبيرة التي واجهته في هذه المرحلة واستمرت تقريبا طيلة سنوات الثورة، إلا أنه استطاع أن يتطور على أكثر من صعيد بمرور الوقت، بالشكل الذي جعله في كثير من الأحيان قادرا على تجاوز العديد من المشاكل والتحديات التي اعترضت مساره ونشاطه العسكري، وفي أحايين أخرى، مكنه من تحقيق إنجازات عسكرية كبيرة ومبهرة، برهن من خلالها عن قوته وحسن تنظيمه وكفاءة مقاتليه ودهاء قادته.

  ولعلّ من بين أبرز العوامل التي ساعدت جيش التحرير الوطني على التطور، هي تلك المرونة والقدرة الكبيرة على التكيف مع الأوضاع الجديدة والتحديات التي كانت تفرضها ظروف القتال، فضلا عن المبادرة الميدانية وسرعة الاستجابة والرد على الإستراتيجية العسكرية الاستعمارية الفرنسية. ويدخل في هذا الإطار إنشاء وحدات عسكرية خاصة داخل جيش التحرير، كتلك التي عرفتها الولاية الرابعة منذ 1956م والتي حملت اسم “الكومندو”، وفي الوقت الذي كانت فيه وحدة الكومندو تتميز عن بقية التشكيلات العسكرية الأخرى لجيش هذه الولاية، كانت هذه الأخيرة تتميز عن باقي الولايات الأخرى بالسبق في إنشاء وتشكيل هذه الوحدة التي كانت تمثل تنظيما عسكريا مستحدثا أضيف للتنظيم الهيكلي لجيش التحرير في هذه الولاية.
لقد اعتمدنا في دراسة هذا الموضوع بشكل كبير على الشهادات التاريخية التي تمّ تسجيلها في وثائقيات وحصص متلفزة أو روايات شفوية مسجلة لمجاهدين سابقين في هذه الوحدة، بالإضافة إلى مذكرات بعض قادة هذه الوحدات، أبرزها تلك التي كتبها الرائد عز الدين الموسومة بـ Les Fellagas، والتي تعتبر من بين أهم المصادر الموثقة حول هذا الموضوع. من بين ما نروم إلى بلوغه في هذه الدراسة، هو أن فكرة إقدام قادة الولاية الرابعة على استحداث هذه الوحدة الجديدة، كانت عملا إجرائيا عبر عن رؤية جديدة عند هؤلاء القادة في إستراتيجية المواجهة العسكرية ضد جيش العدو وأعوانه، راهنوا في قدرتها على مساعدتهم في تجاوز المعضلات العسكرية التي كانت تعترض وتواجه هذه الولاية، فضلا عن محاولة إعطاء دفع أو تفعيل للمجهود العسكري الثوري بالشكل الذي يساعد على رفع نسق مواجهتها ضد قوات العدو، أكثر مما كان يعبر عن رغبة في الانفراد والتميز عن باقي الولايات الثورية الأخرى، وحتى نستطيع توضيح هذه الفكرة، سنحاول البحث في كيفية إنشاء هذه الوحدة، والوقوف على مدى مساهمتها في تفعيل العمل الثوري لاسيما العسكري بهذه الولاية وحتى خارجها، بالشكل الذي يسمح لنا بتقييم مدى إصابة قادة هذه الولاية حول قرار إنشاء وحدة الكومندو في صفوف الجيش، وهل فعلا كانت هذه الوحدة كما توصف نخبة المجاهدين؟ وباعتبار أن تشكيل هذه الوحدات سنة 1956م كان أمرا مستحدثا وغير مسبوق في صفوف جيش التحرير، هل أحدث ذلك تأثيرا على البناء الهيكلي والتنظيمي لوحدات هذا الجيش في الولاية الرابعة؟ وهل انعكس بالإيجاب على وتيرة العمل المسلح فيها؟

الثورة بالمنطقة الرابعة قبل تشكيل الكومندو 1954-1956

لم تكن المنطقة الرابعة عند الانطلاقة حاضرة بالشكل الذي كان متوقعا منها، بحيث يمكن القول عموما إنها عرفت انطلاقة متعثرة على الرغم من أن المنطقة التي كانت مركز التخطيط للثورة قبل تفجيرها، إلا أن ذلك لم يشفع لها لتكون مركز ثقل للثورة على غرار الأوراس وعلى الرغم من الدعم ولو بشكل محدود الذي حصلت عليه من المنطقة الثالثة التي أمدتها بالرجال، إلا أن التعثر ظل ملازما للنشاط الثوري بهذه المنطقة خلال هذه الفترة الصعبة من عمر الثورة. ولعلّ من بين أهم أسباب هذا الوضع هو ذلك الضعف المسجل في عدة وعدد مجاهدي هذه المنطقة.
لم تستعد هذه المنطقة حيويتها الثورية بصورة فعلية إلا في ربيع 1955م، ومن المفارقات أن ذلك قد تزامن مع اعتقال قائدها رابح بيطاط في مارس من نفس السنة، بعدما تدخلت المنطقة الثالثة مرة أخرى لسدّ ذلك الفراغ وإنقاذ هذه المنطقة التي كادت أن تختنق على حدّ تعبير العربي الزبيري، لكن هذه المرة كانت بصمة تدخلها أكثر وضوحا وتأثيرا بعد التحاق قادة عسكريين على رأسهم أعمر أو عمران، وإطارات سياسية على رأسها عبان رمضان، مما أدى إلى انبعاث النشاط الثوري في شقيه العسكري والسياسي، وبشكل سريع بدأت تظهر في هذه المنطقة ولاسيما في العاصمة، نواة لقيادة مركزية للثورة تصدت بشكل ملفت وفعّال لحل الكثير من المعضلات التي كانت تعاني منها ليس فقط هذه المنطقة، وإنما الثورة في كامل ربوع الوطن.
على الصعيد العسكري، نجح أو عمران في إعادة تنظيم هياكل المنطقة الرابعة بعد ربط الاتصال مع معظم قادة النواحي والأقسام، كما تمكن من إنشاء عدة أفواج، غير أن ميزة العمل شبه المستقل بين النواحي ظلت ملازمة للنشاط الثوري بالمنطقة كغيرها من المناطق الأخرى، كما غلب عليه طابع العمل الفدائي والتخريبي، إلى غاية انعقاد مؤتمر الصومام الذي حدد المعالم الإدارية والسياسية لها، كما زودها بقيادة جديدة عين على رأسها صادق دهيلس إلى جانب كل من أحمد بوقرة (سي أمحمد) ومحمد زعموم (سي صالح) والرائد رابح المقراني (سي لخضر) الذي التحق بهما فيما بعد، وهم الذين أشرفوا على تنظيم جيش التحرير في هذه الولاية التي كان لها دور كبير في الثورة، ومميز في بعض الأحيان، ولعل من بين أسباب هذا التميز هو امتلاكها وحدات عسكرية كانت تختلف عن باقي وحدات جيش التحرير في باقي الولايات التاريخية الأخرى، عرفت باسم وحدات الكومندو.

مصطفـى خوجـة.. مؤسـس الكومندو

لا يمكن الحديث عن وحدة الكومندو في الولاية الرابعة وحتى في الثورة دون التطرّق لمصطفى خوجة المدعو علي خوجة، ذلك أنه هو أول من فكر وبادر بتشكيل هذا التنظيم العسكري الجديد داخل جيش التحرير في الولاية الرابعة، الذي حمل في عهده اسم كومندو المنطقة الأولى وكومندو بوزقزة، وأيضا “كومندو الموت”.
ولد مصطفى خوجة يوم 12 جانفي 1933م ببلكور، من أب كان يعمل محاسبا في مصنع للتبغ، أما والدته فقد كان اسمها خداوج بن جعفر. ويبدو بأن مصطفى عاش طفولة ومراهقة عادية إلى أن شب واستدعي لأداء الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي، الذي عاد إليه بعدما تمّ استدعاؤه مرة أخرى سنة 1955م، بحيث لم يعرف عنه بأنه انخرط في أي حزب أو تنظيم سياسي، لكن هذا لم يكن يعني بأن مصطفى خوجة لم يكن مهتما بما كانت تعيشه بلاده تحت الاستعمار، أو غير واع بالواقع المزري والبائس الذي كان يعيش فيه عامة الجزائريين، بل على العكس من ذلك تماما، حيث تذكر أخته سليمة خوجة بأنهم عندما كانوا أطفالا صغارا ويذهبون للعب، كانت لعبة مصطفى المفضلة هي القيام بتمثيل عملية إلقاء القبض على فرنسا، وكان دائما يردد في هذه اللعبة بأنه سيلقي القبض عليها ويأخذها إلى سيدي فرج ثم يقول لها من هنا دخلت ومن هنا ستخرجين، وأنا الذي سوف أخرجك.
إن مثل هذا الخيال البريء أو التفكير عند الطفل مصطفى، يبين بأنه كان يرفض الظلم الفرنسي منذ نعومة أظافره، كما يبين إصراره على مقاتلة فرنسا وإخراجها من الجزائر.
كان مصطفى خوجة يعمل في الخراطة والتضليع قبل أن يتمّ استدعاؤه ضمن الاحتياطيين، كما كان شابا بسيطا لا يظهر عليه ما يميزه عن أقرانه متوسط القامة ويتمتع بصحة جيدة بسبب ممارسته للرياضة. وفي البيت كان شابا لطيفا وطيبا وهادئا، بحيث يذكر عنه يونس خوجة (ابن أخ مصطفى) بأنه كان يقدر المرأة كثيرا ويعطف عليها، أين يروي عنه بأنه كان يعجن الخبز لأمه، وحاك قميصا من الصوف لها، وفي نهاية كل أسبوع كان يتولى الأعمال المنزلية ويطلب من نساء العائلة عدم فعل أي شيء، لذلك، عندما شاع خبر التحاقه بالجبال لم تصدق ذلك نساء العائلة من عمات وخالات،  نظرا للمعاملة الرقيقة والحنان الشديد الذي كان يطبعه، لاسيما وأن قراره من ثكنة بلكور في 16 أكتوبر 1955م كان غداة مراسيم زواج أخته الصغرى التي حضرها قبل أن يلتحق بالثكنة التي فر منها مساءً رفقة أحد أصدقائه.
إن الطبع الهادئ والحس المرهف الذي ميز شخصية مصطفى خوجة، كان يخفي بداخل جذوة متقدة للثورة ورغبة جامحة للانخراط فيها، وهو ما صارح به أحد رفاقه بالثكنة ينحدر من نواحي ثنية الحد بين بني عمران، وصادف أن رفيقه هذا كان ابن عم على تازرورت الذي كان يعمل في شبكة اتصالات أعمر أو عمران، فطلب هذا الأخير من خوجة أن يخرج معه الأسلحة من الثكنة التي كان فيها، وهي المهمة التي قام بها رفقة زميله بنجاح، عندما قاما في 16 أكتوبر 1955م بالفرار من ثكنة بلكور حاملين معهما صندوقا فيه 10 رشاشات مات 49 ومجموعة من القنابل اليدوية (الرمانات).
بعد فراره من الثكنة، التحق بجبال الأخضرية التي أصبحت فيما بعد المنطقة الأولى من الولاية الرابعة، ولم يمض وقت طويل حتى استطاع إقناع قادته لاسيما أو عمران بقدراته القتالية في العمليات التي شارك فيها، فأعطيت له قيادة فوج من المجاهدين، ثم أسندت له قيادة فصيلة كانت تعد الأولى في المنطقة رفقة فصيلة سي الخضر (رابح المقراني) تكونت هذه الفصيلة من عناصر تمّ اختيارها من أفواج عمر الشايع، لكبير عبد العزيز علي الدوادي وسي لونيس، ولقد استطاع علي خوجة تسليح فصيلته من الكمائن والهجومات الناجحة تسليحا جيدا بعد أن كانت تحمل المسدسات و بنادق الصيد، بل تمكن أيضا في بعض الأحيان من مد جنود النواحي الأخرى بالسلاح واللباس. ولقد كان له قول مأثور في هذا المجال يحفز به الجنود وبقية أقرانه من القادة بالقول: “من يريد السلاح عليه أن يذهب إلى الطريق المعبد”، وعن تحمسه للقتال وإيمانه بدور العمل المسلح في تحقيق الاستقلال، كان دائما يردّد: “إن رصاصة تصيب العدو خير من ألف خطاب حماسي لا تتجاوز به عتبات التجمع”.
في هذا السياق، وبعد تلك النجاحات العسكرية التي حققها على خوجة مع جنوده، ظهرت فكرة تشكيل وحدة عسكرية جديدة متميزة عن باقي وحدات جيش التحرير التي كانت موجودة بهذه الولاية، بحيث اقترح علي خوجة في نهاية جوان 1956م على قيادة المنطقة تشكيل وحدة الكومندو، وهو الاقتراح الذي نال قبول وتشجيع قادتها، فقام على خوجة بتشكيل هذا الكومندو من جنود فصيلته السابقة وبعض العناصر من الأفواج و الفصائل الأخرى، من بين الذين برهنوا على كفاءتهم وقدراتهم القتالية والعسكرية)، وقد ساعده في هذا العمل مصطفى لكحل الذي فرّ من ثكنة باليسترو (الأخضرية) بعدما جعله علي خوجة نائبا له، ومن بين بعض المجاهدين الذين تشكلت منهم هذه الوحدة كان هناك ثلاثة طلبة بالثانوية هم محمود رويس، بشير رويس المدعو نهرو، بخوشة، ذلك أن على خوجة كان يركز في عملية انتقاء عناصر هذه الوحدة - بالإضافة للمجندين السابقين في الجيش الفرنسي على العناصر الشابة الذين لا تتجاوز أعمارهم أكثر من 25 سنة.
يذكر الرائد عز الدين بأن أول كومندو أنشأه على خوجة كان في البداية عبارة عن سرية تتكون من 30 جنديا، وبعد 09 أشهر، استطاع علي خوجة تشكيل أقوى كومندو على مستوى الولاية، وأصبح يضمّ حوالي 150 جنديا مسلحا تسليحا جيدا، ولقد كانت تعرف هذه المجموعة في الأول باسم كومندو بوزقزة، ثم كومندو المنطقة الأولى، كما كانت تعرف أيضا بـ«كومندو الموت” نظرا للقوة التي كانت تتمتع بها هذه المجموعة وخطورة المهام والعمليات التي كانت تقوم بها، والتي أجبرت الجيش الفرنسي بالمنطقة على تقصي أخبارها والسعي حثيثا في البحث عنها وعن قائدها خاصة، من أجل الإيقاع به بعد الشهرة الكبيرة التي حازها والعمليات الناجحة التي نفذها رفقة مغاويره ضد وحدات الجيش الفرنسي.
إن النجاح العسكري الذي استطاع أن يحققه علي خوجة ضد الجيش الفرنسي والشهرة الكبيرة التي كان يتمتع بها لم تكن من نسج الخيال أو من حسن صدف على خوجة في الحياة، أو مبالغة من العدو حتى يضفي الأهمية على الانجاز العسكري الذي حققه بالقضاء على متمرد خطير ذائع الصيت مثل علي خوجة. فضلا عن أن تكون هذه الشهرة مجرد أسطورة من الأساطير التي تدخل في إطار اختلاق تاريخ الشخصيات خارقة في التاريخ صنعت بطولات من الوهم أو بطولات عادية نفخت بالتعظيم الزائف، فاسم علي خوجة نقش في تاريخ الثورة بفضل جهد كبير وعمل ميداني فعّال وإقدام وحماس وشجاعة منقطعة النظير، فضلا عن روح إنسانية وأخلاق فاضلة لقائد عسكري شاب مفعم بالحيوية ومتشبع بالروح الوطنية ومستعد إلى أبعد الحدود للتضحية من أجل قضية بلاده. ولما كان من النادر اجتماع كل هذه الصفات والمواصفات في شاب يافع مثل علي خوجة لم يكن من الغريب أن يتمكن من تحقيق نجاحات عسكرية كبيرة وكثيرة ضد العدو، وأن يحوز شرف تلك الشهرة الكبيرة التي خلدها له التاريخ، وأكدتها شهادات رفاقه وكل من عرفه في درب الكفاح.

الحلقة الأولـى

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024