“في قلـب المعركة” و ”عناصر للذاكرة”.. أهـم أعمالـه..

قــراءة في أعمـال المجاهـد محمـد الشريف ولــد الحسـين

فتيحة هرماق/ صليحة علامة

أمجـاد كتيبـة الحمدانية وكومندو سـي الزبير.. 1957-1958

 جاء ضابط ربط إلى دوار “حيونة” أين كانت كتيبة الحمدانية متمركزة، ليسلم رسالة من النقيب السي سليمان، مفادها أن الجنود الفرنسيين اعتادوا على إجراء توغلات كثيرة ومتكرّرة بدوار “نوار” قرب سيدي سميان، حيث يعتدون على السكان ويهينوهم، لذا كان من الضروري أن تضع عناصر الكتيبة حدا لمثل هذه التصرفات المهينة ضد مدنيين عزل، فانطلقت الكتيبة من حيونة ووصلت إلى سيدي سميان على الساعة الثالثة صباحا، واستنادا لخطة الهجوم المسطرة، شرع فريق السي قدور في التمركز قبالة سيدي سميان بمقربة من جبل لمري، أما الفرعان الآخران فقد كمنا على جانبي الطريق بطرف غابة تقع خلف دوار “نواري”.

تبين لاحقا أن قافلتين عسكريتين هامتين تسيران باتجاه الكتيبة، أحدهما قادمة من جهة وادي مسلمون، والثانية أقبلت عبر وادي السبت”، وقد حشدت هذه القوات لإجراء تمشيط واسع النطاق، وقاموا بتطويق عناصر الكتيبة، ليكتشف المجاهدون حينها أنهم كانوا ضحايا خيانة - كما سبق وحدث لهم في سيدي أمحند أقلوش يوم 26 أفريل 1957م من عميل مزدوج استطاع مخادعة يقظة الشبكة الخاصة المضادة للجوسسة - وفضلا عن قنبلة مواقعهم طيلة أزيد من ساعة بواسطة مدافع عيار 105، ومدافع هاون عيار 75 وفجأة حاول فوج السي إبراهيم خوجة اختراق التطويق فدام الاشتباك بينه وبين القوات الفرنسية خمس عشرة دقيقة.

جبل زكار بمليانة في 04 ماي 1957م

ظنّ القائد قودوان أن عناصر الكتيبة هلكوا حرقا أو اختناقا في قلب الغابة التي تحولت إلى سعير حقيقي، إلا أنه ظنه خاب، واستطاع الكتيبة أن تترك المنطقة بسلام إلا أن المجاهدين تفاجأوا باستشهاد السي محمد شرفاوي والسي أحمد عباس، وكان المذهل في الأمر أنهم وجدوهما مذبوحين، بينما تمّ العثور على إبراهيم خوجة جريحا وهو قائد الفوج السادس من البليدة، وبهذا اعتقد القائد قودوان بجدية أنه تمكّن من تصفية كتيبة الحمدانية، وأنه أخذ بثأره من كوموندو السي زوبير الذي أذاقه هزائم عديدة كهزيمة سيدي أمحند بمعركة دوار السيوف، تازة ترولار (برج الأمير عبد القادر حاليا) أفريل 1958م.
كان جيش بلونيس في جنوب البلاد يتحرّك بالتنسيق مع جيش الجنرال جيلالي بلحاج المعروف بكوبيس المقيم بمركز “زيدين” (عين الدفلى)، وكان الجيشان يتلقيان دعما فرنسيا واسعا ويعملان على محاصرة مجاهدي جيش التحرير الوطني بالولاية الرابعة والقضاء عليهم، وكانت خطة هذين الاثنين تقتصر على أن يزحف جيش بلونيس من الجنوب.. الجلفة، الأغواط، وأفلو نحو الشمال، بينما يتحرك الكوبيست من الشمال إلى الجنوب حتى يحددوا أماكن تمركز كتائب جيش التحرير الوطني بجبال ثنية الحد، عمرونة المداد، مطماطة زمورة، وجبل اللوح، وكان كل من بلونيس وكوبيس قد تلقيا ضمانات بأن يقوم الجيش الفرنسي وطيرانه بدعم قواتهما.
لم تغفل قيادة الولاية التاريخية الرابعة عن النوايا المبيتة بين الجيش الفرنسي وعميليه كوبيس وبلونيس، ولهذا الغرض قام الجيلالي بونعامة قائد المنطقة الثالثة والسي رشيد بوشوشي قائد ناحية ثنية الحد بعقد اتصالات سرية مع عقداء الجنرال كوبيس المساعدين الذين كانوا يرغبون في الانضمام إلى جيش التحرير الوطني بأسلحتهم وأمتعتهم.
وصل الكتيبة خبر بأن جزء من جيش بلونيس يقوده سليمان بوحمارة قد أقام معسكره بدوار السيوف (برج الأمير حاليا)، فقرر السي العربي ورؤساء فروع الكتيبة وقائد فرع المسبلين أن يتوجهوا إلى مهاجمة أتباع بلونيس، وبما أن قائد الفرع السي بوعلام المنحدر من بلكور كان مريضا، فقد اقترح عليه محمد الشريف ولد الحسين أن يخلفه في قيادة فرعه، ويسلمه سلاحه وهو رشاش من نوع “مات 49”.
تمكنت أفواج الكتيبة من إلقاء القبض على عدد لا يستهان به من الخونة أتباع بلونيس، إضافة إلى القتلى والجرحى الذين أسقطوهم في صفوفهم، وفي اليوم الموالي قام الجيش الفرنسي بحملة تمشيط واسعة كالعادة، فقد كانت الطائرات تحلق فوق الناحية وتقنبل من بعيد، فهم لم يستوعبوا صدمة التحاق أتباع بلحاج بجيش التحرير الوطني.

أهم المواقف في حياة ولد الحسين الكفاحية

سلكت فرق الكوموندو الطريق المؤدي إلى مارنقو وشرشال بعد الانتصار الذي حققوه في الاشتباك مع الكوموندو الأسود لمظليي العقيد بيجار بناحية تامزقيدة (المدية) في 22 مارس 1957م، ولقد حاول الجيش الفرنسي أن يكشفهم بشتى الوسائل، وصدفة التقوا بمجاهدي كوموندو تابعين لكتيبة الولاية الرابعة فرووا لهم خبر الكمين الكبير الذي جرى يوم 28 فيفري 1957م بدوبليكس (الداموس) حاليا، أين ألحق المجاهدون هزيمة نكراء بالعدو الفرنسي، فكبدته خسائر وأضرار في العتاد، وعددا كبيرا من القتلى والجرحى، وتمكن المجاهدون حينها من استرجاع كمية هائلة من الأسلحة الأوتوماتيكية: رشاش 12/7، رشاشات عديدة من نوع “طومسن”، “مات 49” وبندقيات “قاران”، “ماس .56”.. الخ.
تمّ خلال كمين الداموس تحطيم كل مركبات النقل وإسقاط طائرة جاسوسة “بيبر كاب”، ولم تنج إلا مدرعة من نوع “هالف تراك”؛ لأنها لم تقع في دائرة الكمين، وبالمقابل سقط السي عبد الحق النوفي، من شرشال، شهيدا عندما حاول جاهدا أن يفك رشاش 12/7 من ركيزته، فلقي صعوبة كبيرة في استرجاع هذا السلاح الذي هو من الأسلحة الرهيبة الفعّالة والثمينة، فرغم البراغي التي كانت تسمح بتثبيت هذا الرشاش بمتانة، إلا أن العدو فكر في تلحيمه بأرضية المصفحة، فلم يكن هذا الرشاش كمثل الرشاش 12/7 الذي تم استرجاعه في الكمين الذي نصب يوم 09 جانفي 1957م بتيزي فرانكو (مناصر حاليا)، فهو لم يكن مشدودا بالبراغي.
يعتبر لقاء محمد الشريف ولد الحسين بالعقيد السي أمحمد بوقارة من أهم الأحداث التي أورد تفاصيلها في كتاباته بعد أن روى له هذا الأخير تفاصيل نصب الكمين الكبير بناحية ثنية الحد من قبل كوموندو المنطقة الثالثة (بالونشريس) بقيادة السي محمد بونعامة، وتوّجت العملية بقتل عدد كبير من الجنود الفرنسيين، والقبض على ضابط برتبة نقيب، إضافة إلى استرجاع مئات القطع من الأسلحة بينها رشاش 12/7.

ولد الحسين مسؤول استعلامات وربط بقطاع شرشال

جرت القوانين، أن من يتحملون المسئوليات السياسية في المستقبل بجبهة التحرير الوطني - جيش التحرير الوطني، يجب أن يكونوا قد تخرجوا من فرق الكوموندو أو الكتائب، وينبغي أن يكونوا قد احتكوا ميدانيا بالمتاعب والمصاعب، وواجهوا الجيش الفرنسي مدركين الظروف القاسية التي تخاض فيها المعارك بالموازاة مع إتقانهم للقراءة والكتابة باللغتين العربية والفرنسية، ولأن محمد الشريف ولد الحسين تتوفر فيه هذه الشروط، تم تعيينه في منصب محافظ سياسي ومسؤول استعلامات وربط بقطاع شرشال، فقبل بالمهمة الجديدة بعد طول إقناع من السي موسى؛ لأنه رجل ميدان عسكري، وكان يرفض أن يكون سياسيا بعيدا عن السلاح، فتوجّه نحو قطاع شرشال، رفقة ثلاثة أو أربعة ضباط تناوبوا على مرافقته تاركا رشاشته، معوضا إياها بمسدس بسيط.
اقتصرت مهام المحافظ السياسي وضابط الربط في توفير الأحذية من نوع “باطوقاس” والألبسة والأفرشة والأغطية، وتحضير المخابئ والطعام للمجاهدين، ناهيك عن تزويدهم بالمعلومات حول تحركات وحدات الجيش الفرنسي، وكان السي الشريف أحد العناصر المؤهلة لتحمل هذه المسؤولية كونه يعرف الحياة في الكوموندو والكتيبة ويعرف جيدا احتياجات المجاهدين، عكس العناصر من المدن والأرياف الذين يمرون مباشرة إلى تولي المسؤوليات دون أن تكون لديهم أدنى فكرة عن تضحيات الكفاح، وبالتالي يتهربون من مسؤولياتهم الحقيقية، ويضرون الثورة التحريرية الجزائرية أكثر مما ينفعوها.
يقوم مسؤول الاستعلامات أيضا بتأطير الشعب الجزائري، وتشجيعه وحمايته من الخونة، وإعطائه تكوينا سياسيا جيدا، بمعنى آخر، يجب مرافقة الشعب طيلة فترة الثورة  المسلحة كي لا يكون ضحية الدعاية الفرنسية الكاذبة.

ولد الحسين وكوموندو المنطقة الثالثة:

بعد مرور أيام من تولي ولد الحسين مهامه الجديدة، وصله خبر بأن كوموندو المنطقة الثالثة كان متواجدا في النواحي لأجل خوض معركة ضد العدو الفرنسي، فانطلق مسرعا ليتلحق بهم في موقع العمليات موجها التعليمات لسكان الدواوير كي يهيئوا المخابئ والأغطية ويعدوا حطب التدفئة والطعام، كما استعان بأناس آخرين ليكونوا على استعداد لنقل الجرحى على الأحصنة والبغال، وحمل الأسلحة التي من المفترض أن يغنموها من العملية.
جرت هذه المعركة في جبال زكار وبالتحديد قرب دوار “بني مرحبة”، وقتل أثناءها العديد من الجنود الفرنسيين، وجرح عدد كبير منهم وتمّ استرجاع أسلحة متنوعة تعد بالمئات، واستشهد بها “السي جمال” قائد كوموندو المنطقة الثالثة، ومنذ ذلك الوقت أصبح يعرف هذا الكوموندو الشهير بـ«كوموندو السي جمال”.التقى محمد الشريف ولد الحسين بعناصر كوموندو المنطقة الثالثة وعلى رأسهم السي محمد بونعامة، السي يحيى بوسماحة، السي أمحمد رايس، السي عيسى تاج الدين، وشبان مليانة، والسي عمر رمضان، السي البشير رويس المعروف بـ«نهرو”، والسي سليمان الغول.
طلب النقيب السي محمد من ولد الحسين أن يلتحق بعناصره في المنطقة الثالثة، فوافق على الاقتراح شرط أن يكون ضمن الكوموندو كونه - كما ذكرنا سابقا - لا تهمه المسؤوليات السياسية، بل يفضل البقاء بالوحدات المقاتلة لجيش التحرير الوطني، فوافق النقيب على اقتراحه مبدئيا، وبدأت إجراءات التحويل من المنطقة الثانية إلى المنطقة الثالثة في الولاية الرابعة، وبعد أيام قلائل تمّ قبول التحويل والتحق محمد الشريف ولد الحسين رسميا بكوموندوالسي محمد بالونشريس.
قدم ضابط ربط في يده رسالة موجهة لولد الحسين مفادها أن القيادة عينته مسؤولا عن القطاع الخامس بالونشريس، وكالعادة رفض هذا التعيين مبدئيا إلا أنه اقتنع بمهمته الجديدة.. لاحقا بعد أن حدثه السي محمد بونعامة، ووضحّ له أن اختيار الإطارات السياسية العسكرية يجب أن تكون قد أثبتت جدارتها في ميادين الثورة المسلحة، وأنه يجب أن تكون متوفرة فيها مقاييس وقدرات ومسالك معينة، ليكون أهلا لتمهيد أساليب الاتصال بين الوحدات وشرح الأسباب التي يقاتل جيش التحرير الوطني لأجلها ضد الاستعمار الفرنسي، مرافقا الشعب الجزائري في كل لحظة.

ختاما
خلصت ورقتنا العلمية إلى جملة من النتائج نبرزها فيما يلي: كان لضباط جيش التحرير الوطني دور بارز في تدوين أهم الأحداث التي مرت بها ثورة التحرير الجزائرية، وهذا ما أفاد الجيل الجديد والمؤرخين المهتمين بهذا الجانب في الكتابة التاريخية.
كان المسبلون الجزائريون يقومون بعمليات فدائية في المدن الكبرى وفي وضح النهار، للتأكد من جدارتهم بالمنصب قبل التحاقهم بكوموندو أو كتيبة معينة، وبالتالي يكون هذا بمثابة امتحان واختبار لهم.
حرصت وحدات جيش التحرير الوطني على نصب كمائن لقوات الجيش الفرنسي في الجبال نظرا لتفوق هذا الأخير في العدد والعدة.
ساهمت الهجومات والتخريبات التي قام بها فدائيو جيش التحرير الوطني في إحداث الفزع النفسي في عناصر الجيش الفرنسي، كون أن هذه العمليات دليل على شمولية الثورة التحريرية من جبال أرياف، قرى ومدن.
في غالب الأحيان، يختار كوموندو جيش التحرير الوطني الفترة المسائية للدخول في اشتباك مع الجيش الفرنسي لسهولة الانسحاب ليلا وتجنب عمليات التمشيط التي يقوم بها الجيش الفرنسي في صباح اليوم الموالي.
يتوجّه الجيش الفرنسي لسكان الدواوير لحرق بيوتهم وتخريب أملاكهم والاستيلاء على ماشيتهم وأملاكهم البسيطة انتقاما لما ذاق من الخسارة وما تكبد خلال الاشتباكات مع وحدات جيش التحرير الوطني.
تتوفر في المحافظ السياسي وضابط الربط جملة من الصفات نظرا لحساسية المنصب، وعلى رأسها المشاركة في المعارك العسكرية والتماس احتياجات المجاهدين عن كثب.

الحلقة الثالثة

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024