سياسـة استعمارية همجيـة

هذه خلفيات المشـروع النووي الفرنسي في الجزائر..

د عبد المجيد بوجلة جامعة تلمسان

تعدّدت أوجه السياسات الاستعمارية في الجزائر على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين واستمرت طيلة مرحلة الكفاح المسلح الذي أعلنه الجزائريون في غرة نوفمبر 1954، وإذا كانت السنة العامة لهذه السياسات تبرز همجية الاستعمار الفرنسي ضد شعب أعزل يتطلّع للحياة الحرة الكريمة واسترداد الوطن الذي سلبت حريته منذ أزيد من مائة سنة، فإن تفجيرات رقان النووية أو ما يعرف بعمليات اليرابيع منذ 13 فيفري 1960 تاريخ تفجير أول قنبلة نووية فرنسية في صحراء الجزائر البعيدة عن تراب وأجواء فرنسا تفجيرات ترقى إلى مستوى قطاعة الاستعمار وعنجهيته وحتى تفجيرات فرنسا النووية في بولينيزيا في المحيط الهادي لم تكن بالحجم والانعكاسات الخطيرة التي أحدثها أزيد من عشرين تفجيرا في الصحراء الجزائرية على أن التفجير الأول الذي مكّن فرنسا من تأكيد قوتها النووية إلى جانب كبار العالم يندرج ضمن مشروع خططت له باريس في مراحل تاريخية متباينة.


فمع نهاية الحرب العالمية الثانية والتحولات العميقة التي شهدها العالم شغلت الدوائر السياسية العليا الفرنسية نفسها بالبحث عن سبل التحكم في تكنولوجيا الذرة النووية ذات الأهداف العسكرية، وعلى هذا الأساس أصدر شارل دوغول في أكتوبر 1945 الأمرية القاضية بإنشاء محافظة الطاقة الذرية، التي أتاحت إجراء البحوث وتطويرها على يد مجموعة قليلة من العلماء والطلبة، أمثال العالم جان فريدريك جوليو Jean Frederic Joliot، وحتى بعض العسكريين المتقاعدين أصحاب الخبرة في استخدام المتفجرات كما ظلّت الإدارة السياسية الفرنسية تؤكد على مستوى المنظمة الأممية وفي التصريحات الرسمية والندوات الصحفية أن المشروع بعيد عن الاستخدامات والأغراض العسكرية.
ومنذ مطلع سنة 1952، خصّصت فرنسا المشروع البحث النووي ميزانية هامة رصدتها وزارة المالية التي كان يقودها الوزير فليكس غايار في وقت كان قد جرى إنتاج كميات هامة من عنصر البلوتونيوم على يد فريق بحث يرأسه العالم غولد شميت دون الحصول على ما يكفي من الماء الثقيل، وقد حرصت الإدارة الجديدة لمحافظة الطاقة الذرية ممثلة في رئيسها الجنرال بيار غليوما على تسخير كل الإمكانات والدعم العسكري لإنجاح المشروع، حيث أوكلت متابعة الأبحاث للعالم الفيزيائي Perrin Francis وكان التركيز في هذه المرحلة على إيجاد مصادر اليورانيوم خاصة خارج فرنسا وتحديدا في مستعمراتها.
ومع حلول سنة 1955 السنة التي اشتد فيها المد الثوري، تعمّقت الدراسات والأبحاث التقنية عندما كلف الجنرال Albert Buchalet بمهمة تحويل المشروع النووي إلى قنبلة نووية في إطار السرية التامة تحت إشراف مكتب الدراسات العامة، وبموجب بروتوكول 20 ماي 1955 أصبح بإمكان وزارة الدفاع إقامة مفاعل نووي للبلوتونيوم مع زيادة معتبرة في حجم الاعتمادات المالية للمشروع.
وسعيا لدعم المشروع راح فريق الأبحاث يعمق دراساته وبمهام محددة معروفة بالملف الذي يحمل تسمية EnginM1.
وكان العمل بالمشروع يهدف بالأساس إلى تخلص فرنسا من مركّب النقص إزاء الدول العظمى التي احتكرت سرّ الذرة وسلاحها، فضلا عن وقع الأزمة البسيكولوجية التي أحدثتها الحرب في الهند الصينية واشتداد الثورة في الجزائر، لذلك كان شارل ديغول يبحث عما يمكنه بعث المجد الضائع لفرنسا، وذلك ببلوغ الانضمام إلى الحظيرة النووية التي كانت تحتكرها أمريكا والاتحاد السوفياتي.
ولتفعيل العمل في هذا الاتجاه استحدثت أجهزة وهيئات أشرفت عليها المحافظة العامة للطاقة الذرية التي تتفرع عنها عدة مصالح أهمها: مديرية الطاقة النووية - مديرية التطبيقات العسكرية DAM مديرية البحث التكنولوجي، مديرية علوم الأجسام والمواد ومديرية العلوم الحية واضطلعت مديرية التطبيقات العسكرية Direction des Applications Militaires المنبثقة عن مكتب الدراسات العامة BEG بدراسة وصناعة السلاح النووي، وكان على رأس المديرية العقيد ألبرت بوشالي.
وعن سير وتطور عمل مديرية التطبيقات العسكرية يذكر Pierre Billand في مذكراته: “كنت ضمن الفريق العامل إلى جانب الكولونيل البرت بوشالي منذ شهر ديسمبر 1954 الذي كان يتمتّع بعلاقات مليئة في الأوساط المنتقلة سواء على مستوى الوزارات السيادية أو مع قيادات أركان الجيش الفرنسي، وكانت مهمتنا في المكتب - مكتب الدراسات العامة التوصل إلى الصياغة العملية لإنجاز أول تجربة بتفجير قنبلة نووية فرنسية وكنت أؤدي دور المقرر المساعد في “لجنة التفجيرات النووية التي يشرف عليها الجنرال كرسين وكان مساعدي مارك الاريموندي والضابط الوغوري برتبة رائد العامل في سلك القوات البحرية، وهم من بين الكفاءات من بين الضباط العسكريين المقتدرين.
وإلى جانب الحضور القوي للضباط العسكريين، ضمّت مديرية التطبيقات العسكرية عددا هاما من العلماء كما تمّ استحداث مصالح فرعية مثل مصالح البرمجة العسكرية، ومصلحة التجارب ومكتب الاستعلامات العلمية بالإضافة إلى كل المصالح التي تتصل بمحافظة الطاقة الذرية التي بلغ عدد العاملين بها إلى غاية الستينات 30 ألف عنصر، وقد كان العمل بها وبكل المصالح المتصلة بالمحافظة محاطا بأكبر سرية ولم يتمّ الإعلان والتصريح بنشاطها رسميا إلا في أخر سنة 1958.
ولأجل التسريع بوتيرة إنجاز المشروع النووي الفرنسي بأغراضه وأبعاده العسكرية، أنشئت العديد من دور البحث ومراكزه في مناطق مختلفة من فرنسا أهمها مركز بروبار لوشاتيل المعروف بالمركز 13، ويظهر في مجموعة من مصالح وأقسام أهمها قسم الفيزياء التجريبية والكيمياء والالكترونات وقد باشر نشاطاته العملية رسميا في صيف 1957، ولم يقتصر الأمر على مركز واحد، بل اتسع إلى مراكز أخرى تخدم نفس الأغراض ترافقها السلطات العليا للدولة الفرنسية.
مسايرة لهذا المسعى كثفت فرنسا في هذه الفترة إنجاز العديد من المفاعلات النووية وبأنواع مختلفة أهمها محطة ZOE الذي كان يعمل بالماء الثقيل ومحطة المفاعل (E12) التي أنشئت سنة 1952 بمخير Saday ثم مفاعلات 61 و63 خلال سنتي 1958 و1959، ثم مفاعل G EDF1 بطاقة تبلغ 100 ميغاواط، ومفاعل EDF2 الذي ارتفعت طاقته إلى 200 ميغاواط، وEDF3 بطاقة 500 ميغاواط وتمّ تجميع هذه المفاعلات في مركز CHENON بموجب التنسيق بين شركة EDF الفرنسية ومحافظة الطاقة الذرية..
ويعتبر مفاعل ماركول Marcoule الذي يحمل رمز 63 الأهم من حيث النشاط، وبه تمّ استخدام اليورانيوم في شكله الطبيعي، بحيث بلغت طاقة الحمولة الكاملة للمفاعل نحو 110 طن.
ولدعم الإنجاز النووي، رصدت السلطات الفرنسية مبلغ ثمانين مليون فرنك لبناء المفاعل 61 ومبلغ أربعمائة مليون فرنك جديد المفاعل 62 و63. كما جرت اتصالات سرية على المستوى الرسمي بين فرنسا والكيان الصهيوني لإنهاء المشروع وتحويله موضع التنفيذ. مشروع ظل يفتقد لعنصر الماء الثقيل وللاستفادة من خبرة الكيان الصهيوني في هذا المجال، أنجزت عدة تجارب للتفجيرات النووية الباطنية وبرامجها في تطوير القدرات الصاروخية، وكان وقتها العالم دوسترو فسكي قد نجح في اكتشاف أسلوب جديد يمكن توفير الماء الثقيل كيماويا اعتمادا على كميات غير كبيرة من طاقة الكهرباء، وقد استفاد دوسترو فسكي استفادة هامة من رصيد نقل الثقافة البريطانية والأمريكية على وجه الخصوص في هذا المجال بطرق وأساليب متنوعة بما فيها الجوسسة. كما أتاحت المساعدات في هذا المجال حصول الكيان الصهيوني على اليورانيوم والنظائر المشعة من الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الطبيعي والاستراتيجي للكيان ولعلّ هذه الاعتبارات قد حفّزت كثيرا الدوائر الرسمية السياسية والعسكرية في فرنسا لربط اتصالات سرية مكثفة مع الكيان الصهيوني انيت عام 1953 بتوقيع نص اتفاق سري خاص بالبحث في المجال النووي أتاح لفرنسا الإطلاع على المراحل والحلقات التكنولوجية في مجال التفجير النووي والخبرة الكافية في إنجاز التفجيرات الباطنية.
وفي المقابل مكّنت الاتفاقية السرية الصهيونية الفرنسية من دعم فرنسا للكيان باتجاه إنجاز المفاعل النووي ديمونة في صحراء النقب بفلسطين، وفيه تمّ تجميع مادة البلوتونيوم، وظلت الاتفاقية محل سرية تامة حتى سنة 1954 حين كشف عنها ممثل فرنسا في منظمة الأمم المتحدة دون إعطاء تفاصيل حولها، تفاصيل سوف تكشف عنها الإدارة السياسية الأمريكية آخر سنة 1960، التاريخ الذي تزامن مع تفجير القنبلة النووية في منطقة رقان، كما أضاف رئيس لجنة الطاقة الذرية الصهيوني ويدعى Bergman مؤكدا على تنسيق الجهود في إطار التعاون الفرنسي الصهيوني في المجال النووي أن عددا هاما من الباحثين الصهاينة قد اشتغل بالبحث في عدة مختبرات فرنسية وأن نظراءهم الفرنسيين عملوا هم أيضا بالمنشآت النووية على مستوى الكيان الصهيوني.
وهكذا تمكّنت فرنسا من بلوغ أسباب وعناصر صناعة القنبلة النووية الفرنسية، وكان حينئذ البحث جاريا لاختيار مكان التفجير.

موقـع الصحراء الجزائريـة مـن الاستراتيجية الفرنسية

منذ البدايات الأولى للاحتلال الفرنسي للجزائر، لاحظ الاستعمار شساعة البلاد، وأدرك قيمة اتساع النطاقات الصحراوية، والدور الذي يمكن أن تؤديه الصحراء الجزائرية في السيطرة على مستعمراتها في إفريقيا، فضلا عن المكاسب الاقتصادية وغيرها، وإذا كان الانشغال أول الأمر بإخضاع المناطق الشمالية من الجزائر، فإن الاهتمامات بالصحراء الجزائرية لم تنقطع، وكانت تتمّ في مرحلة أولى في شكل عمليات استكشاف في انتظار التوسّع والإخضاع والهيمنة.
واعتبارا من خمسينيات القرن العشرين، تكرست لدي السلطات الفرنسية الأهمية الإستراتيجية للصحراء الجزائرية جغرافيا واقتصاديا وعسكريا، وتأكدت هذه الاعتبارات في الإجراءات التي سوف يتخذها الاستعمار من سنة 1957 على الأقل، علي 10 جانفي من نفس السنة، صدر قانون يقضي بإنشاء منظمة تحمل اسم OCRS / Organisation Commune des Régions Sahariennes تضع الصحراء الجزائرية في نطاق المستعمرات الفرنسية.
واستحدثت في 13 جوان 1957، وزارة خاصة بالصحراء وعهدت إدارتها وتسييرها إلى ماكس لوجون، تلاها قانون صدر في أوت 1957 عن الجمعية الوطنية الفرنسية يختص بالتنظيم الإداري للجنوب، فظهر بذلك إقليما الساورة والواحات اللذان يلمان المنطقة المشتركة للأقاليم الصحراوية.
ومنذ زيارة الجنرال شارل ديغول للجزائر عام 1958. شدّد في تصريحاته وخطاباته على أهمية الصحراء من الناحية الاستراتيجة، حيث يشير في كتابه: “مذكرات “الأمل” الصفحة 297: أما هذا الشطر (أي الصحراء) سيضمن بالأخص وصول واستخدام الزيت أي النفط وغاز الصحراء إلى المنشآت الاقتصادية الضخمة في مجالات الصناعة التعدينية والكيماوية..
وفي عام 1950 يقود ديغول مناورة جديدة يصرّح فيها بحق تقرير المصير لاثني عشر دائرة من أصل خمسة عشر، ومما جاء في تصريحه بعد النظر في المعطيات الجزائرية الوطنية والدولية، أقر أنه من الضروري الذهاب إلى تقرير المصير باسم الجمهورية والصلاحيات التي يتيحها الدستور أتعهد بذلك أمام الجزائريين في 12 دائرة.
على أن التصريح أكد أكثر من مرة على 12 دائرة من أصل 15 وهو ما يستثني ثلاثة منها تتعلق بالصحراء.
ولم يكتف المخطط الدوغولي بالإفصاح عن الموقف السياسي الرسمي والخطاب المحفوف بالغموض والمناورة والخادع. بل ذهب إلى أبعد من ذلك إذ شرع في صياغة استراتيجية مكملة في إطار سياسة “فرق تسد”، انشغل وانكب عليها شارل دوغول شخصيا تقوم على ضرورة إيجاد فئة من الأعيان ذات الولاء لفرنسا، وأوعز إلى أحد مستشارية المقربين Guichard Olivier بتاريخ 21 جويلية 1959 بدراسة ملف الصحراء، ووضع قائمة بأسماء كبار الأعيان ذوي المرتبة والنفوذ، ويذكر الشيخ بيوض أبرز أعلام الإباضية في غرداية أنه تقابل مع أوليفي غيشار Olivier Guichard الذي حمل إليه رسالة من دوغول جاء فيها:
إنني مبعوث إليك من طرف الجنرال دوغول، رئيس الجمهورية الفرنسية، للتفاوض معك بشأن مستقبل الصحراء.. ونحن في عونكم جميعا.. وأخبرك بأن الجنرال قد جعل خطه الهاتفي لك مفتوحا في الإليزي ينتظر منك ردّا.
غير أن موقف الشيخ كان وطنيا لا يقبل المساومة.

الحلقة الأولى

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024