“في قلب المعركة” و”عناصـر للذاكرة”.. أهـمّ أعمالـه..

قراءة في أعمال المجاهد محمد الشريف ولد الحسين

فتيحة هرماق/ صليحة علامة

أمجـاد كتيبة الحمدانية وكومندو سي الزبـير.. 1957-1958

تعدّ الثورة التحريرية الجزائرية 1954م أحد أعظم ثورات القرن العشرين لما أحدثته من معجزات في كفاحها، ولما اتّسمت به من شمولية عبر كامل التراب الوطني، فضلا عن الإلمام بجميع جوانبها، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، السياسي أو العسكري الدبلوماسي أو الثقافي، ولذلك وجب أخذ العبرة من مسيرتها ومسارها، وتبجيل شهدائها، والاعتراف لمجاهديها واتّخاذها رمزا للحرية والسمو.

تقاسمت ولايات الثورة التحريرية الجزائرية التي أقرّها مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956م مناطق الكفاح ضدّ المستعمر الفرنسي، باستيراتيجيات متعدّدة، والولاية التاريخية الرابعة أحد أبرز أمثلتها، لذا وجب التأريخ لأبرز محطاتها وأشهر أحداثها، وهذا لن يكون ناجعا إلا بالاعتماد على مصادر صنّاعها في مختلف جوانبها، ولهذا ركّزنا في ورقتنا العلمية على شخصية محمد الشريف ولد الحسين الذي كان واحدا من أبرز ضباط جيش التحرير الوطني في الولاية التاريخية الرابعة، وهدفنا هو إثراء الكتابة التاريخية بالاعتماد على شهادات صانعي الثورة التحريرية، فكان سؤال بحثنا الرئيسي يتمحور حول مدى مساهمة كتابات محمد الشريف ولد الحسين في التأريخ لأحداث الثورة بالولاية التاريخية الرابعة في الفترة الممتدة ما بين 1957-1958م.

مجاهـد الولايــة الرابعــة..

ولد محمد الشريف ولد الحسين في 11 أوت 1933م بمدينة حجوط (مارنقو) سابقا، ويعدّ أحد أهم ضباط جيش التحرير الوطني في الولاية التاريخية الرابعة، تنحدر أصول عائلته من منطقة عين الحمام بتيزي وزّو، توجّه للحياة العملية كمساعد لوالده الذي كان يشغل مهنة إدارة مقهى بعد حصوله على شهادة نهاية الدراسة في المرحلة الإبتدائية.
أدرك محمد الشريف ولد الحسين ظلم النظام الاستعماري في وقت مبكّر جدّا فانضم إلى صفوف جيش التحرير الوطني سنة 1956م بالولاية التاريخية الرابعة برتبة مسبل ثم فدائي، وتم دمجه في كوموندو السي زوبير بالمنطقة الثانية في اليوم التالي لهجوم 13 جانفي 1957م بمدينة مارنقو، كما أنّه كان أحد عناصر الكتيبة الحمدانية بالمنطقة الثانية، الناحية الثالثة التي ألحقت هزائم وانتكاسات كبيرة ومريرة بالجيش الفرنسي.
عين محمد الشريف ولد الحسين عضوا في المجلس القطاعي لشرشال، في منصب المفوّض السياسي المسؤول عن المعلومات والاتصال، وتم تعيينه لاحقا رئيسا للقطاع السياسي والعسكري للونشريس بالمنطقة الثالثة، ثم عضو المجلس الجهوي لثنية الحد بالمنطقة الثالثة.
أصيب محمد الشريف ولد الحسين بجروح خطيرة في معركة دوار السيوف (تازا ترولارد) سابقا، وبعد انتهاء فترة نقاهته، تم إرساله إلى بودابست عاصمة هنغاريا (المجر) من طرف جيش التحرير الوطني لتلقي تدريب مهني سنة 1960م، وبعدها عاد إلى تونس العاصمة المقر الرئيسي للحكومة المؤقتة الجزائرية في ماي 1961م.
كان محمد الشريف ولد الحسين ضمن المجموعة الجزائرية التي أرسلها الاتحاد العام للعمال الجزائريين إلى جنيف لمتابعة ندوة نقابية نظمتها هذه الأخيرة في سبتمبر من العام نفسه، وقام بعدها بتأسيس جمعية اللاجئين الجزائريين بسويسرا. كان محمد الشريف ولد الحسين متواجدا بمدينة الجزائر بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962م، في الوقت الذي شهدت فيه هذه الأخيرة الدمار والخراب الذي تسبّبت فيه منظمة الجيش السري (OAS)، التي كانت أعمالها التخريبية خاتمة العمل المأساوي الذي تسبّبت فيه قوات الجيش الفرنسي بعد كفاح ثوري دام حوالي ثماني سنوات.
كرّس محمد الشريف ولد الحسين وقته الكامل بعد التقاعد لأعماله الثورية وتدوين شهاداته حول ثورة أول نوفمبر 1954م عامة والأحداث التاريخية المتعلّقة بالولاية التاريخية الرابعة خاصة، ومن أشهر مؤلّفاته:
- من المقاومة إلى الحرب من أجل الاستقلال 1830م - 1962م.
- في قلب المعركة: سرد واقعي لمعارك كومندو سي الزبير وكتيبة الحمدانية جيش التحرير الوطني – الولاية الرابعة.
- عناصر للذاكرة - حتى لا آحد ينسى : من المنظمة الخاصة 1947 إلى استقلال الجزائر في 05 جويلية 1962.

 التحديـد الجغرافي للولايـة الرابعـة التاريخيـة

نشأت الولاية الرابعة التاريخية بعد التقسيم الذي أقرّه الصومام بعدما كانت تسمى المنطقة الرابعة عشية اندلاع الثورة التحريرية الجزائرية، يوم 01 نوفمبر 1954م، فمؤتمر الصومام أعاد تقسيم البلاد إلى ستّ ولايات ووضع لكلّ ولاية حدودها من جميع الجهات، ومن هنا ظهرت الولاية السادسة التي تحدّ الولاية الرابعة من الجنوب، أما من الناحية الشمالية فيحدّها البحر الأبيض المتوسط، ومن الشرق الولاية الثالثة، ومن الغرب الولاية الخامسة، في حين تصل حدودها الغربية إلى حدود عمالة وهران.
تتميّز الولاية التاريخية الرابعة استيراتيجيا بأنّها تتوسّط التراب الجزائري، محتوية بذلك على جبال وغابات وسهول، فمن أشهر المناطق الجبلية نجد جبال منطقة الوزانة وحمام ملوان، وجبال تابلاط وتامزغيدة وغيرها، إضافة لاحتوائها على مجموعة من السهول الساحلية والداخلية، ومن أشهرها سهل متيجة، فضلا عن سهول صغيرة أخرى کسهل غريب والذي يعدّ امتدادا لسهل الشلف إلى جانب سهل بني سليمان وغيرها، وهذا ما ساهم في إنجاح العمل العسكري بها.

أهـم الأحـداث التاريخيــة

أورد محمد الشريف ولد الحسين في كتبه تفاصيل عمليات فدائية كان ضمن منفذيها بمدينة حجوط (مارنقو سابقا) يوم 13 جانفي 1957م الذي اعتبره امتحانا للعناصر قبل تحويلهم إلى فرق الكوموندو، أين قام بتفجير حانة “ألكسيس” بواسطة قنبلة يدوية، بينما قام رفيقه سيد علي حسين بإطلاق النار عشوائيا بمسدسيه على زبائن محلّ الحلاقة المجاور من العسكريين، وفي الوقت نفسه، أحرق كلّ من محمد علوان وعلي فتاكة مخزن “فيتوسي” بزجاجتين حارقتين (كوكتيل مولوطوف)، في حين خرّب السي بن عيشه سيدهم المحطة الكهربائية التي تزوّد المدينة لإحداث عطب في التيار الكهربائي كي يتمكّن الفدائيون من الانسحاب دون أن تكشفهم الدوريات العسكرية الفرنسية في الظلام الدامس، الذي يخيم على المدينة مع انقطاع الكهرباء.
تم إدماج محمد علوان وسيد علي حسين وعلي فتاكة في فصيلة جهوية للمجاهدين، أما محمد الشريف ولد الحسين فقد تم تعيينه في منصب المحافظ السياسي بعد نجاحهم في المهمة الموكلة إليهم من قبل جيش التحرير الوطني، إلاّ أنّ هذا الأخير رفض أن يكون سياسيا كونه يميل إلى الجانب العسكري وساحات المعارك، فطلب من كوموندو “السي زوبير” أن يضمّه إلى عناصره كي يشهد أهم الصراعات العسكرية في الميدان بينهم وبين المحتل الفرنسي.

الكمائــن..

ذكر محمد الشريف ولد الحسين تفاصيل الكمين الذي كان أحد منفّذيه بحمام ريغة المنطقة الثالثة من الولاية الرابعة في جانفي 1957م، فقد تم تعيين خمسة وعشرين من العناصر لنصب كمين لقافلة عسكرية تتكوّن من خمس شاحنات وسيارة “جيب”، موزّعين على ثلاثة أفواج كلّ فوج يضم أحد عشر عضوا، حيث وضع “السي زوبير “ فوجين على جانبي الطريق وحرص على أن لا يكونا متقابلين، وهذا كان لغرض معين ألا وهو كي لا يطلق أحدهما النار على الآخر حين تحتدم المعركة، وكان في حوزة كلّ فوج رشاش من نوع (FM BAR)، أما الفوج الثالث فقد كان تحت قيادة السي أحمد خلاصي مساعد السي موسى الذي كان بحوزته رشاش من عيار 30 وهو سلاح رهيب وغالي الثمن، وتمثل سبب إبعاد السي أحمد عن المكان الذي كمن به الفوجان الآخران، هو أنّ القائد كان يخشى تدخّل طيران العدو، وإن وقع فعلا فسيكون مستعمل السلاح متمكّنا من السيطرة على أرضية المعركة ويشلّ عمل طائرات العدوّ، وهو ما سيسمح للمجاهدين بالانسحاب في أحسن الظروف، حيث حرص السي الزوبير على توزيع العناصر بطريقة تضع القافلة في قلب الكمين وتحصرها من كلّ الجوانب.
وضّح محمد الشريف ولد الحسين أنّ سيارة الجيب التي تتقدّم القافلة استشعرت أمر الكمين فبدأت تطلق النار حواليها، الأمر الذي دفع بالمجاهدين إلى الانسحاب وتسلّق أحد المرتفعات الوعرة، في الوقت الذي كان فيه الجنود الفرنسيون منبطحين أرضا تحت هياكل شاحنات (GMC)، وراحوا يفرغون ملقمات أسلحتهم في كلّ الاتجاهات.. كانت حصيلة العملية متمثلة في تحطيم سيارة الجيب من قبل طبقات الرشاش 30، وتم إصابة كلّ من كان على متنها من ضباط مزخرفين بالأوسمة وعددهم أربعة وسائق، أما جنود القافلة فقد احتموا تحت الشاحنات وواصلوا إطلاق النار في الفراغ، لكنّهم لم يتجرأوا على الاقتراب من حطام سيارة الجيب ودخانها المتصاعد، قبل وصول المدد الجوّي الذي لم يصل إلا بعد أن ابتعد المجاهدون كثيرا عن مسرح العملية، وفشلت العناصر في تدمير القافلة العسكرية الفرنسية المكوّنة من 120 جنديا تقريبا.
تبين بعد التمحيص في سير الأحداث أنّ سبب فشل المخطّط كان كما يلي: كان السي خالد الذي ينحدر من مدينة القليعة، وهو كاتب السي زوبير، متمركزا على يسار الطريق قبالة الفوج الذي يترأسه السي موسى، وبينما كان يهم بأخذ موقعه بين المجاهدين غفل فانفلت مسدّسه من يده وتدحرج إلى الأسفل بحوالي متر وسقط على الطريق، عندها سارع السي خالد لالتقاطه، في الوقت نفسه، أطلت سيارة “الجيب” من المنعرج، فتمكّن مقدّم القافلة العسكرية من رؤية حذاء السي خالد الذي لم يكن له الوقت الكافي كي يختفي عن أنظار ركاب الجيب، فشرعوا للتوّ في إطلاق النار.
سقطت قافلة عسكرية مشكّلة من خمس شاحنات من نوع “جي أم سي” ومدرعة “هالف تراك” في كمين حين كانت متوجّهة من تيزي فرانكو إلى مارسو ( مناصر حاليا) في نفس المنطقة، قبل عشرة أيام من الكمين سالف الذكر، ونظرا للتخطيط المحكم للكمين من طرف القادة السي زوبير والسي حمدان والسي موسى، أسفرت العملية عن تحييد جميع الجنود الفرنسيين، وإحراق كلّ السيارات واسترجاع كمية هائلة من الأسلحة بينها: رشاش من عيار 12/7، رشاشين أف أم بارن وعدد كبير من بنادق “قاران”، “ماس 36”، “ماس “56”، “مات 49”، مسدسات “كربينة” أمريكية الصنع، والرشاش الشهير الأمريكي الصنع عيار 30 الذي حوله السي الزوبير إلى الفوج الثالث فدمر به سيارة “الجيب” وقضى على ركابها، وكان صاحب هذا السلاح الخطير في ذلك اليوم السي أحمد خلاصي الذي لا يجاريه أحد في دقة  الرمي.
سقطت قافلة عسكرية هامة تتشكل من عشرات الشاحنات ومدرعة من نوع “هالف تراك” في كمين “بدوبليكس” (الداموس حاليا) يوم 28 فيفري 1957م، حيث كانت ترافق هذه الأخيرة طائرة جاسوسة (بيير كوب) واكتشف الطيار أمر الكمين الذي أعدّه المجاهدون فسارع إلى إنذار قادته، لكن لاحظ تحركه أحد المجاهدين فلم يترك له وقتا لتبليغ قادته وأطلق النار على الطائرة برشاشه فأسقطها.

الاشتباكــات..

يورد محمد الشريف ولد الحسين تفاصيل استشهاد السي زوبير يوم 22 فيفري 1957م بدوار السباغنية، إثر اشتباك وقع بينه وبين طائرات مروحية من نوع “سيكورسي”، نتيجة لطلب مقابلته من طرف الطلبة والطالبات الذين شنّوا الإضراب العام ضدّ السلطات الفرنسية في المدن فتوجّه إليهم ليقوم بتقسيم المهام بينهم، فمنهم من اختارهم ليصبحوا كتابا وآخرين ليكونوا محافظين سياسيين ورجال استخبارات أو معتمدين عسكريين، أما البقية فكان يجب أن يتم إرسالهم إلى تونس والمغرب الأقصى لمواصلة دراستهم، إلا أنّ الأعداد الكبيرة للطلبة بالدوار وإقامتهم الطويلة به، سمحت لأحد الجواسيس بالتبليغ عنهم لدى السلطات الفرنسية، وفي الساعة الثالثة مساء بعد الزوال وجدوا أنفسهم مطوّقين بخمس عشرة طائرة مروحية من نوع “سيكورسي”، فأمر السي الزوبير الطلبة بالانسحاب صعودا مع الوادي، بينما بقي لوحده يطلق النار على طائرات العدو العمودية قصد منعها من الهبوط وإنزال الجنود، فجاءت رصاصة 12/7 لتستقر في عنقه وكانت كافية لقتله فورا، واستشهد معه سبعة وعشرون من الطلبة بينهم طالبة ثانوية.
تلقى العدوّ الفرنسي معلومات بشأن وجود المجاهدين بدوار “تادينارت” لذلك ترك الجنود الفرنسيون شاحناتهم في الأسفل، وسلكوا ممرات صغيرة وسط الغابة حتى وصلوا إلى مخبئهم وحاصروهم دون أن يلفتوا أيّ انتباه، فاستطاعوا خداع يقظة السكان والجنود الرقباء والمسبّلين، وكانت النجاة بالنسبة للمسبّلين بمثابة معجزة بعد أن قفزوا من النافذة تاركين قذائف العسكريين الفرنسيين موجّهة نحو الباب وكان هذا بتاريخ 12 مارس 1957م بمعسكر أشجار البلوط. (عناصر القردة سابقا بالمدية)
ذكر محمد الشريف ولد الحسين في كتاباته اشتباكا مهما جدّا كان قد شارك فيه ضمن عناصر كوموندو السي الزوبير مع الكوموندو الأسود في تامزقيدة بالمدية يوم 22 مارس 1957م، إلا أنّ هذا الأخير لم يكن كغيره من الاشتباكات فقد اتسم بالخطورة والعنف، خصوصا بعد أن استنجد المظلّيون، المجهّزون براديو اتصال، بالطيران حتى يدعمهم، إلا أنّ هذا الحلّ لم يكن لينفعهم كثيرا لأنّ الضباب الكثيف الذي كان قد أحاط بالمنطقة لم يعد يسمح للطيارين بإطلاق النار على المسبّلين.

الحلقــة الأولــى

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024