شهادة الفدائيـة زهرة ظريف..

هذه وقـــائـع إضراب الثمانيـة أيام..

هاجر نهاص جامعة أبو بكر بلقايد - تلمسان

 تعتبر فترة الثورة الجزائرية أهم المراحل التاريخية للجزائر باعتبارها المرحلة التي أوصلت الجزائر للاستقلال وتأسيس الدولة الجزائرية المستقلّة، وقد تميّزت هذه الثورة بعدّة أحداث منذ بدايتها وكانت السلطات الفرنسية تغطي على هذه الأحداث لكي لا تقع ضجّة من ورائها خوفا من أن تصبح القضية قضية رأي عام، وقد نجحت السلطات الفرنسية في إخفاء حقيقة ما كان يجري في الجزائر لفترة زمنية معتبرة، نظرا لعدّة اعتبارات منها الترسانة الإعلامية التي كانت تملكها السلطات الفرنسية وتغطي على الأحداث التي كانت في الجزائر بل تحوّر الأخبار المهمة لتصبّ في صالحها.

حاولت الاتجاهات السياسية الجزائرية المختلفة قبل اندلاع فتيل الثورة، القيام بمبادرات سياسية لتسليط الضوء على واقع الجزائريين في ظلّ الاستعمار الفرنسي، لكن لم تلق الصدى الواسع مثلما حصل في عهد جبهة التحرير الوطني، إذ عرفت الجزائر في هذه الفترة إضرابا تاريخيا شكّل منعطفا حاسما في تاريخ الثورة الجزائرية، وفي صراع الجزائريين مع فرنسا الاستعمارية، فإضراب 28 جانفي - 4 فيفري 1957 كان بمثابة نقطة تحوّل، ووقفة مهمة في تاريخ الجزائر عامة وتاريخ الثورة الجزائرية خاصة، وذلك لما كان له من تداعيات وآثار إيجابية على الثورة عموما، وجبهة التحرير الوطني على وجه الخصوص.

تحضيرات إضراب الثمانية أيام

ترى المجاهدة زهرة ظريف أنّ إضراب الثمانية أيام كان حاسما في مسار الثورة الجزائرية، فقد سمح بتدويل المسألة الجزائرية، وكذا الاعتراف بجبهة التحرير الوطني على المستوى العالمي باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لشعبنا وناطقه الرسمي، وفي هذا الصدد تقول: “لقد سمح الإضراب بتعرية ونزع القناع عالميا عن الطبيعة الحقيقية للحضور الفرنسي في الجزائر وإظهار الارتباط العميق لشعبنا بالحرية والكرامة والاستقلال”.
قبل أن نستعرض قرار الإضراب التاريخي الذي اعتبر ذروة المواجهة خلال ما عرف في الأدبيات التاريخية بـ«معركة الجزائر”، تشير زهرة ظريف في مذكراتها أنّ من أطلق على الأحداث التي ميّزت منطقة الجزائر من جانفي 1957 إلى أكتوبر من العام، هو الجنرال ماسو وفرقته، وفي نظرها أنّه لا يجب ولا يجوز تسمية “معركة” لتلك العملية العملاقة من الرعب والذعر الموجّه ضدّ السكان الجزائريين بالعاصمة من طرف 10 آلاف مظلّي بحجة تفكيك التنظيم الثوري للجبهة بالمدينة، وتضيف قائلة: “مهما يكن، أيّ معركة عسكرية تفرض بصفة عامة وجود جيشين وجها لوجه وبنفس الوسائل القتالية “، وهذا يؤكّده ياسف سعدي في قوله: “إنّ قائد الفرقة المظلّية العاشرة هو أول من استعمل هذه الكلمة خلال سنة 1957 في رسالة مؤرّخة بتاريخ 13 جوان 1957”.
ودون استطراد في هذا الجانب، ترى المجاهدة زهرة ظريف أنّ قرار القيام بالإضراب لم يكن عملية اعتباطية، بل كان عبارة عن مجموعة من الإجراءات والتدابير التي أخذت لجنة التنسيق والتنفيذ على عاتقها مهمة تأديتها على أكمل وجه، ومن بين أهم هذه الإجراءات تذكر: 1- تشكيل لجان فرعية للإضراب في كلّ ناحية ومنطقة، وهذا ما أكّدته زهرة ظريف، حيث أنّ ياسف سعدي المدعو “الخو”، قام بتقسيم القصبة إلى أحياء صغيرة، وتشكيل لجان وفرق لتغطية جميع الأزقة، كما أنّه قام بتشكيل لجان داخل المؤسّسات الاستراتيجية مثل الموانئ والنقل بمختلف أنواعه والإذاعة والبريد والأسواق العامة والمصالح البلدية.
2- قيام لجان الإضراب باقتطاع الأموال من صناديق جبهة التحرير الوطني لمساعدة العائلات المحتاجة غير القادرة على تسديد فاتورة المواد الغذائية مدّة أيام الإضراب، وفي هذا الصدد يذكر ياسف سعدي أنّه قبل شنّ الإضراب بأيام، التقى محمد العربي بن مهيدي ووضع تحت تصرفه 10 ملايين فرنك فرنسي، لتسديد فاتورة المواد الغذائية للعائلات المعوزة في حي القصبة والتي لا تستطيع توفير الحاجيات الضرورية طول مدّة الإضراب.
3- توزيع المناشير والبيانات من أجل توعية السكان بأهداف الإضراب، ولتحقيق هذا الغرض تذكر زهرة ظريف أنّ ياسف سعدي بادر بفكرة جيدة وهي الاستعانة بالنساء الفنّانات نظرًا لشعبيتهن وشهرتهنّ، وكونهنّ يحظين بالاحترام والتبجيل من طرف سكان العاصمة، وقد استطاع ياسف سعدي بمساعدة الفنّان حبيب رضا من تنظيم اجتماع بحضور كلّ من زهرة ظريف وجميلة بوحيرد، وحوالي 15 فنّانة بينهنّ كلثوم فريدة، فضيلة الدزيرية، أختها قوسم، عويشات وهيبة، حيث كلّفهنّ بشرح أهداف الإضراب للنساء اللائي سيذهبن لزيارتهن في الأحياء الشعبية لمدينة الجزائر وضواحيها، وإعداد تقارير خاصّة بإحصائيات العائلات المعوزة والتي ليس لها إمكانات تخزين المواد الغذائية لمدّة أسبوع كامل.

مجريـات إضراب الثمانية أيـام.

في فجر يوم 28 جانفي 1957، اتخذت مجموعة من الشاحنات أماكنها في أعالي القصبة توزّع آلاف المظلّيين عبر المدينة العتيقة، احتلوا جميع الأزقّة.. كانت أحياء المسلمين خالية على عروشها لا شيء يتحرك، حيث أطلق عليها البعض اسم “المدينة الشبح”، والبعض الآخر “المدينة الميتة”.. هكذا وصفت زهرة ظريف صبيحة الإضراب التاريخي في يومه الأول، فبدخول الإضراب حيّز التنفيذ، خيّم صمت رهيب على المدن ولم يعكّر صفو هذا الصمت سوى مكبّرات الصوت التي جابت الأحياء وعليها خبراء في الحرب النفسية كانوا ينادون الشعب بعدم الانسياق وراء الإضراب، وضرورة الذهاب إلى عملهم وتهديدهم بالردع، كما عمل المظلّيون على توزيع الحلويات على الأطفال وأظهروا اهتمامهم بدراستهم وحالتهم الصحية.
وفي السياق، تذكر زهرة ظريف في مذكّراتها أنّ الجنرال “ماسو” قام بإلقاء المناشير باستخدام الطائرات المروحية على القصبة يحثّ فيها الجزائريين على ضرورة الالتحاق بعملهم من أجل تخفيض عدد البطالين والمتنزهين خوفا من حدوث عمليات إرهابية، كما قامت فرقة المظلّيين العاشرة المخادعة بترويج منشور يحمل توقيع جبهة التحرير الوطني أهم ما جاء فيه: “ليست جبهة التحرير من أطلق الإضراب.. بل الجنرال ماسو”.
أما عن مدى استجابة الشعب للإضراب، ترى المجاهدة زهرة ظريف أنّه يمكن أن نستشفّها من خلال المنابر الإعلامية الفرنسية الاستعمارية خاصة الجرائد كجريدة Le monde وجريدة Le journal d’Alger وجريدة France observateur حيث جاء في صفحتها الأولى “إنّ نسبة المنقطعين عن العمل كبيرة، وهي مرشّحة للتصاعد، خاصة وأنّ كثيرا من الموظفين قد انضموا للإضراب بعد منتصف النهار من اليوم الأول، خصوصا في الجزائر العاصمة.
أما عن وسائل الإعلام الأجنبية، وتأتي على رأسها وكالة “رويتر “ البريطانية، فقد أوردت في تقريرها الصادر في 30 جانفي 1957 أنّ هناك إضرابا حدّدت مدّته بأسبوع بدأه الجزائريون ودعت إليه جبهة التحرير الوطني” ويضيف التقرير أنّ “ما يقارب 90 % من الحوانيت في المدن الرئيسية في الجزائر كانت مغلقة وأنّ 70% من الموظفين الذين ليسوا فرنسيين لم يذهبوا إلى أعمالهم، ويضيف بأنّ الإضراب كان يشمل جميع أنحاء البلاد من مغنية على الحدود الغربية حتى تبسة على الحدود الشرقية”.
في اليوم الأول من الإضراب، قامت الفرقة المظلّية العاشرة بمحاصرة الأحياء والدخول بالقوّة إلى المنازل بلا أدنى اعتبار لأهلها، واعتقال من صادفهم في طريقهم وأخذهم إلى أماكن مختلفة من أجل العمل، وبمجرد أن تختفي الشاحنات وينسحب المظلّيون يتخذ الرجال طريق العودة عبر مسالك ملتوية، كما قاموا أيضا بمداهمة المحلات التجارية للجزائريين وفتحها بقوّة وبمختلف الوسائل العسكرية وتركها للنّهب عمدا.
تقول زهرة ظريف: “ تابعنا من فوق السطوح مشهدا مخجلا لدولة “الحقوق والحريات” فقد كان المظلّيون يقومون بتكسير الستائر الحديدية للمحلات التجارية بأدوات ميكانيكية ما أحدث دويّا رهيبا، وذلك تحت الأنظار الراعية للأوروبيين وتصفيقات المدنيين”.
وفي اليوم الثاني والثالث استطاعت قوات الجنرال ماسو الحصول على عناوين عمال السكّة الحديدية وعمال الغاز والكهرباء والبريد والمواصلات فبدأ البحث عنهم وجلبهم بالقوّة إلى مواقع عملهم.
وبعد أن أضحى الأمر مقلقا للسلطات الفرنسية، تذكر زهرة ظريف أنّ ياسف سعدي المدعو الخو تلقى بعض التقارير، أهم ما جاء فيها أنّ ماسو ذهب إلى حدّ إرسال المظلّيين إلى المناطق الريفية المجاورة لقطف الخضر وتموين السوق للأوروبيين.
وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ القوات العسكرية فقدت أعصابها ما دفعها إلى إقامة جهاز مرعب للقمع والتعذيب لتفكيك خلايا الجبهة والاتحادات الجماهيرية وطرد العمال من وظائفهم وتقديمهم للمحاسبة، وقد كانت زهرة ظريف شاهدة على إحدى أبشع وأرذل جريمة من جرائم السلطات الفرنسية.

شهــــادة ظريــــف..

في اليوم السابع من الإضراب، وفي حدود الساعة الثانية صباحا، شهدت زهرة ظريف في منزل بوحيرد، (منزل رقم 5 درب غرناطة) الذي كانت تقيم فيه رفقة زملائها في الكفاح ليلة رهيبة، حيث قام المظلّيون بمحاصرة المنزل الذي كان متواجدا به العديد من المناضلين الذين كانوا محلّ بحث لدى الشرطة الفرنسية، وهم حسيبة بن بوعلي ياسف سعدي، علي عمار المدعو علي لابوانت، وغاني وسي مراد، وبينما كانت فرقة المظلّيين تتأهّب لاقتحام المنزل، قام الإخوة بتحرير المخبأ المتواري خلف صينية نحاسية دائرية كبيرة انزلقوا بداخلها، حيث سيمكثون لساعات طويلة إلى غاية مغادرة المظلّيين المنزل.
وبعد قيام المظلّيين باقتحام المنزل قاموا بتقييد الرجال وأجبروهم على التمدّد بكامل أجسادهم على الأرض الباردة في رواق الطابق الأول من المنزل، وبدأت عملية الاستنطاق والتعذيب التي جرت في الغرفة التي كان يختبئ فيها الإخوة، وأكثر من هذا فحتى الأطفال لم يسلموا من التعذيب مثل إلياس صاحب 14 سنة الذي خضع للتعذيب بالكهرباء، حيث ارتفع صوته ليبلغ ذروته من شدّة الألم، ودام التعذيب إلى غاية السابعة صباحا. وبعد مغادرتهم البيت أعطى ياسف سعدي مباشرة تعليمات لجميع المناضلين بمغادرة منزل عائلة بوحيرد؛ لأنّه حسب قوله “أصبح محروق”، وعلى إثر هذا، قام الإخوة بجمع وتغليف أجهزة المخبر وبعد أن كانت كلّ من جميلة بوحيرد وزهرة ظريف أثناء أدائهما لمهام وضع قنابل، توزيع الطرود، يخرجن في هيئة أوروبيات، صدرت تعليمة أخرى أن لا يخرجن إلا ملتحفات بالحايك لكي لا يستطيع أن يتعرّف عليهما أحد.
ومن خلال ما أوردت زهرة ظريف في مذكّراتها، نستنتج مدى اضطراب الاستعمار الفرنسي أمام شجاعة الشعب الجزائري، حيث يستعمل القوّة تارة، يعطف على الأطفال تارة أخرى، ولكنّه يقف مندهشا ومكتوف الأيدي، أمام استجابة الشعب الجزائري لنداء جبهة التحرير الوطني وثقتهم المطلقة فيها، ورغما عن سياسة الاضطهاد التي مارسها المظلّيون في حقّ أبناء الشعب، فإنّهم ظلّوا صابرين مكافحين.

نتائـــج إضـــراب الثمانيــة أيـــام

أجمع مهندسو إضراب الثمانية أيام سواء من جانب لجنة التنسيق والتنفيذ أو من جانب الاتحادات المهنية والجماهيرية على بلوغ الإضراب السياسي السلمي مراميه المحدّدة، أمّا من وجهة نظر المجاهدة زهرة ظريف، فإنّ إضراب الثمانية أيام شكّل منعطفا تاريخيا حاسما وأوصل الثورة إلى نقطة اللاّرجوع، كما سمح بتعرية ونزع القناع عالميا عن الطبيعة الحقيقية للحضور الفرنسي بالجزائر، وأسقط مقولة الجزائر فرنسية إلى الأبد.
وعلاوة عن هذا، فإنّ الإضراب استطاع أن يرفع الغطاء عن السياسة اللاّإنسانية لفرنسا، ولفت انتباه العالم وكشف الأساليب القمعية التي تواجه بها فرنسا مطالب الجزائريين، كما أنّه قطع خط الرجعة أمام المتردّدين من الجزائريين والمشكّكين، ضف إلى ذلك أنّه حقّق القطيعة النهائية بين مختلف فئات الشعب الجزائري والنظام الاستعماري، ونسف خرافة الجزائر فرنسية.
وحسب زهرة ظريف، فإنّ الإضراب كشف للعالم أنّ FLN ليس مثلما صرّحت به السلطات الفرنسية مجموعة من الخارجين عن القانون، بل بالعكس، هو الممثل الحقيقي الشرعي والوحيد للشعب الجزائري في كفاحه من أجل استقلاله، وهذا يعني أنّ إضراب الثمانية أيام استطاع أن يعزّز مكانة الجبهة داخليا وخارجيا، وهذا ما أكّدته زهرة ظريف في قولها “لم يعد ممكنا لأيّة دولة أو منظمة نقابية أو وسيلة من وسائل الإعلام أن تتحدّث أو تتصرف حول المسألة الجزائرية دون المرور عبر جبهة التحرير الوطني.
وبالموازاة مع هذه النتائج، فإنّ إضراب الثمانية أيام استطاع أن يربك الدبلوماسية الفرنسية ويسبّب المتاعب لرئيسها ووزير الداخلية الفرنسية فرانسوا ميتران، كما أنّه أعطى القوّة لمندوبي جبهة التحرير الوطني في هيئة الأمم المتحدة، ومنحهم الفرصة لإقناع دبلوماسيي دول العالم لإزالة الغموض حول الثورة، ووضع الدول الصديقة والحليفة والمحبة للسلام أمام الأمر الواقع، حول مساعيهم الخطابية في دعم حقيقي للثورة وفضح سياسة فرنسا الإعلامية المظلّلة.
وفي هذا الصدد، تؤكّد المجاهدة زهرة ظريف أنّ إضراب الثمانية أيام كان أحد الأسباب التي جعلت الجمعية العامة للأمم المتحدة تصادق بالإجماع يوم 15 فيفري على قرار تعرب فيه عن اعترافها بالألم والخسائر الجسيمة في الأرواح البشرية، وتدعو إلى إيجاد حلّ سلمي ديمقراطي عادل للمشكلة الجزائرية بوسائل ملائمة طبقا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
وإضافة إلى هذا، فقد تمكّن الإضراب من تعرية سلوك فرنسا القمعي في الجزائر، وكشف فضائحها وفظائعها في حقوق الإنسان من طرف مراسلي جرائد فرنسية وأجنبية تابعوا تطوّرات الإضراب في مدينة الجزائر.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024