انتفاضـة ماي رسخـت القناعـة بـ”الثورة التحريرية”

مؤرخــون يــروون وقائع أفظـع مجـازر القـرن العشرين

هيام ل.

 رخيلـة: مجـازر مــاي استغرقت 19 يومـا كاملـة وليست يـوما واحدا

 دليوح: عدد الشهـداء الحقيقـي يتجاوز الـ45 ألـف بكثـير..

أكد مختصون في التاريخ أن مجازر ماي 1945، كانت بمثابة السبب المباشر الأول في تفجير الثورة التحريرية المباركة في غرة نوفمبر 1954، وتم ترسيخ مقولة “ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة”، مطالبين بضرورة مواصلة الكفاح لتصنيف أحداث ماي كمجازر ضد الإنسانية خلال القرن العشرين، وجريمة إبادة لعرق محدد وجريمة عنصرية، لا تجيزها التشريعات المعاصرة ولا التشريعات السماوية منذ الوجود، إذ ما يزال الغرب الكولونيالي يعتبرها مجرد “أحداث”.
شدد المؤرخ عامر رخيلة، على ضرورة تغيير تسميات مجازر 8 الثامن 1945، كما تعودنا الوصف، إلى مجازر ماي 1945، وهذا لأنها تتعدى اليوم الواحد، إذ استغرقت 19 يوما كاملة، وتعدت الى ولايات أخرى، وهذا موازاة مع ارتكاب أبشع المذابح والمجازر التي وقعت في ولايات سطيف قالمة وخراطة، أين رُمي الجزائريون في الافران.
وطالب المختص في التاريخ بضرورة طرح المسألة القانونية لمجازر ماي بعد استرجاع السيادة، حيث قال: “طرحنا المسألة وستظل مطروحة؛ لأنها صفحات من التاريخ، ولابد من تسليط الأضواء عليها، وهنا يأتي مطلب استرجاع الأرشيف الوطني ضمن مطلب وجوب اعتراف فرنسا بالمجازر المرتكبة في حق الجزائريين”.
وتوقف رخيلة عند عدة نقاط، أهمها أن “مجاز ماي هي امتداد للمجازر التي ارتكبت من طرف القوات الفرنسية النظامية ضد الشعب الجزائري، وهي الإبادة التي سلطت على مجموعة بشرية، حيث أن العديد من القرى والمداشر في شرق الجزائر وغربها في وسطها، في شمالها وجنوبها، تعرضت للإبادة الجماعية، ففرنسا اعتمدت سياسة الأرض المحروقة”.
ولم تميز فرنسا الاستعمارية بين الجزائريين، ولا بين مسالم ومهادن ومقاوم، فاعتمدت سياسة لتصفية الجزائريين في اطار محاولة فرض سياسة الاستيطان - يقول رخيلة - ويؤكد أن تلك السياسة اعتمدت التصفية العرقية للجزائريين في إطار محاولة إثبات ارتفاع عدد الأوروبيين على عدد الجزائريين، من خلال قتل الجزائريين، حيث كانت سياسة فرنسا الاستعمارية تشجع الاستيطان الأوروبي، بمعنى فتح الجزائر أمام مختلف الجنسيات الأوروبية، وتمكينهم، على غرار الفرنسيين الذين استوطنوا الجزائر، من خيرات الجزائر سواء من الأراضي الخصبة أو الأحواز والمساحات الجغرافية لإقامة مساكن وقصور، أو لإقامة مصانع ووحدات إنتاجية.
وأضاف رخيلة: “طبعا.. يستحيل تحقيق التفوق العددي للأوروبيين على الجزائريين، رغم ما اعتمد من عمليات إبادة، وجرائم ومجازر في حق سكان قرى ومداشر كاملة، فهناك من المؤرخين من يقول إن فرنسا حاولت القضاء على أزيد من 300 قبيلة من القبائل الجزائرية، وما يثبت ذلك تعداد السكان الجزائريين سنة 1945 الذي كان في حدود 9 ملاين نسمة، ولم يكن تعداد الأوروبيين يتجاوز المليون”.

تصنيف المجازر في خانة “الحوادث”.. إجحاف صارخ

أما عن التصنيف القانوني لهذه الجرائم، فقد أكد المؤرخ رخيلة أنه تصنيف غربي كولونيالي، يحرص على وصف المجازر بـ«الأحداث”، غير أنها في الحقيقة، جرائم واعتداء وعدم احترام المدنيين.. جرائم قتل جماعي دون محاكمة، ودون أي جريرة يرتكبها اشخاص يستحقون عليها المتابعة القضائية أو الحجر عليهم، لذلك، فهي تمثل جريمة ضد الإنسانية.. جريمة إبادة لعرق محدد، وجريمة عنصرية لا تجيزها التشريعات المعاصرة، ولا التشريعات السماوية منذ بدايات الوجود”.
كما ان هذه الجرائم المرتكبة - يضيف المتحدث - تتنافى مع قيم الثورة الفرنسية نفسها، ومع قانون عصبة الأمم المتحدة الذي ظهر كتتويج للحرب العالمية الأولى، كذلك تتنافى مع ميثاق الأمم المتحدة وإعلان ميثاق حقوق الانسان الدولي، هذا هو التكييف القانوني لتلك المجازر التي تتنافى مع القانون الدولي الذي كان سائدا في ذلك الوقت، فالمؤرخون الفرنسيون – مع الأسف - عند تكييفهم للمجازر المرتكبة في حق الجزائريين بالحرب العالمية الثانية، اغفلوا حقائق تاريخية وركزوا على الأمور البسيطة، وحاولوا تقزيم الجرم المرتكب في حق الجزائريين بالقول إن ما ارتكب مجرد حوادث.
وهنا، أبرز رخيلة أن المجازر لم ترتكب في يوم واحد، كما يطلق عليها اليوم، مجازر 8 ماي، وهذا تجنّ صريح على الحقيقة الميدانية التي تثبتها الوقائع، والتي وردت في تقارير جيوش المحتلين، لاسيما من الإنجليز والأمريكان الذين كانوا متواجدين بالجزائر، حيث وافوا ادارتهم في واشنطن ولندن بتقارير كاملة عما جرى في ماي 1945، ولا أقول 8 ماي فقط، لأن المجازر ظلت متواصلة من 8 ماي، يوم اندلاعها وهو يصادف يوم الهدنة الدولية للحرب العالمية الثانية، واحتفال سكان العالم لاسيما في أوروبا بانقشاع الحرب للعالمية الثانية وعودة السلم.
وأكد رخيلة ان المجازر لم ترتكب في قالمة وخراطة وسطيف التي شهدت أصعب وأبشع الجرائم، بما فيها استعمال الفرن لرمي الجزائريين فيه، هذه الأحداث شملت الشرق الجزائري أيضا، ووصلت منطقة القبائل بتيزي وزو وعمت الغرب الجزائري ووصلت بوابة الصحراء ببوسعادة، فاستمر سقوط الجزائريين شهداء طيلة تلك الفترة في إطار عملية محكمة للتصفية الجسدية للجزائريين.
من جهة أخرى، أشار المؤرخ رخيلة إلى أن هذه المجازر “ارتكبت على مرأى ومسمع قوات الحلفاء في الجزائر، التي حالت دون العديد من الجرائم لاسيما في مدينة البليدة ومدينة المدية لولا تدخل قوات الحلفاء ومنع القوات الفرنسية من ارتكاب المجازر هناك، لكان ما عرفته سطيف وقالمة وخراطة سيتكرر في معسكر، البليدة والمدية وغيرها من المدن الجزائرية، فالمسؤولية كاملة تتحملها الإدارة الفرنسية، لأن الفعل قام به جيش نظامي، قامت به الدولة الفرنسية، التي ارتكبت جرائم بواسطة أدواتها القمعية، من قوات الجيش، قوات الجندرمة، قوات الشرطة والعناصر المتطرفة من المتطرفين الأوروبيين الذين كانوا على مرأى ومسمع من جنود الجيش الفرنسي ومن الإدارة الاستعمارية، حيث شهدت تلك الفترة اغتيالات عشوائية”.

بروز كيان سياسي مهم

بدوره، أكد الدكتور عبد الحميد دليوح، أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر2، أن “مجازر ماي 1945، تعتبر انتفاضة شعبية، لأن مسار الأحداث يثبت أن الحركة الوطنية دخلت في منعرج خطير، خاصة بعد نتائج الحرب العالمية الثانية، فالمعطيات الجديدة التي أثبتت أن فرنسا وقعت فريسة للاستعمار الألماني النازي، وكيفية انهيارها مع القوات النازية، لم يخف على الحركة الوطنية، حيث كان ينظر إلى فرنسا على أنها دولة عظمى، إضافة إلى نقطة أخرى، وهي مساهمة المجندين الجزائريين في تحرير جنوب فرنسا بعد المعارك الطاحنة التي تم خوضها في صفوف الجيش الفرنسي المتكون في أغلبه من الجزائريين، استطاعوا تحرير جنوب فرنسا بالكامل”.
وأضاف: “وكرد فعل على هذه الانتفاضة، فإن أغلب المجندين في الجيش الفرنسي، كانوا ينتظرون وفاء السلطات الفرنسية لوعودها، خاصة بعد الجهد الذي قاموا به في تحرير فرنسا،  فإذا بهم يتلقون المفاجأة بهذه الضربة الجبانة، ضربة قاتلة لاستعمار جبان، فكثير من الوثائق تقول إن المستوطنين الفرنسيين انتظروا انتفاضة شعبية وحضّروا الأسلحة للتصدي لها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، خاصة في شرق الجزائر، فالحركة الوطنية دخلت في مسار يؤدي للصراع مع الاستعمار الفرنسي، فزعماء الحركة الوطنية كانوا يظنون أن انتفاضة شعبية كانت كفيلة للقضاء على الاستعمار الفرنسي، ناهيك عن بيان فيفري 1943، الذي سلم للحلفاء، الذي طالب بالحقوق، ورفع سقف المطالب الجزائرية”.
وفي السياق، أكد المتحدث أن الواقع جاء بـ«تطور القوة السياسية الى ما يسمى كيان سياسي مهم جدا مهم جدا، وهو ظهور حزب أحباب البيان والحرية، هذا الحزب جمع في رحمه مختلف الألوان السياسية الجزائرية مثل أنصار حزب الشعب الجزائري وضم كل شرائح الشعب الجزائري، حيث كان يدافع عن أهم مطلب سياسي تبنته الحركة الوطنية، منذ نشأتها، وهو من طالب بالاحتفال بيوم الثامن ماي، والخروج بالأعلام الوطنية وبالتظاهر السلمي، مطالبين بالاستقلال، فكان ظهور العلم الجزائري بأيدي الكشافة الإسلامية الجزائرية مثارا للقنبلة وللغارات الجوية.. حوالي مئة وخمسين غارة سقط على إثرها شهداء بأرقام يعجز أي إنسان عن حساب عدد الشهداء، قد يكون أدنى عدد 45 ألف شهيد، وهو رقم أعطاه السفير الأمريكي بالقاهرة آنذاك، لكن العدد في الحقيقة أكبر من ذلك بكثير، ومن أهم ما نسجله في غمرة الانتصار بنهاية الحرب الكونية كان الشعب الجزائري، يُباد عن بكرة أبيه بالطيران الفرنسي والبواخر الفرنسية، وعن طريق السفاحين من المستوطنين الفرنسيين.
وواصل المؤرخ سرد الأحداث قائلا: “الشهادات تتكلم عن مشاهد عنيفة خاصة في القطارات، الحافلات وغيرها من الأماكن لقتل الجزائريين.. كل هذا لم يمر مرور الكرام، فكانت الانتفاضة سببا مباشرا في تغيير أسلوب التفكير في نيل الاستقلال، وترسيخ قناعة أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وتحييد أي خيار ممكن للعمل السياسي، وأي خيار ممكن للانتفاضة الشعبية، والتفكير الجدي في ضرورة العمل على إنشاء هيكل، وظهرت المنظمة الخاصة في فيفري 1947، مهمتها التحضير لتفجير الثورة التحريرية، حيث واصلت عملها لسبع سنوات وتمكنت من تفجير الثورة المباركة التي تواصلت سبع سنوات أخرى لتحقيق الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024