محمد بلوزداد بعيون باحثين ومقربين

مهندسُ ثورة التحرير الذي رحل قبل اندلاعها

سهام بوعموشة

عاش قليلا وعمل كثيرا دون ضجيج

يقدّم باحثون في التاريخ قراءة لشخصية بلوزداد التي لا تتكرر في زماننا هذا والظروف التي نشأ فيها وجعلته قائدا فذا ومخططا للعمل المسلح تحضيرا للثورة التحريرية.
يبرز الأستاذ والباحث مصطفى سعداوي، من جامعة البويرة، أحداثا معلمية ومحطات حاسمة في تاريخ النضال الوطني ضد المحتل الفرنسي، والمؤتمر السري الذي عقده حزب الشعب الجزائري في فيفري 1947، والذي أسفر عن قرارات هامة كان أهمها إنشاء تنظيم سري شبه عسكري يتولى الإعداد للعمل المسلح، لنقل هذا القرار إلى مستوى الفعل.
ويضيف، أن قيادة الحزب أسندت هذا العبء الثقيل إلى شاب في مقتبل العمر، وهو المناضل محمد بن أحمد بلوزداد. يقول الباحث: “هنا يستغرب الكثيرون كيف أنيطت مهمة خطيرة بهذا الحجم لهذا الشاب، كان لا يتجاوز 23 سنة إلا ببضعة أشهر، ويزداد الاستغراب حدة عندما نعلم أن الأمر يتعلق بتنظيم خاص؛ بمعنى أن الأمر يتطلب قائدا وليس مسؤولا خاصا، وشتان بين الاثنين”.
السياق التاريخي والمكاني شكل وعيه
يوضح سعداوي أن القائد هو الشخص الذي يمتلك مؤهلات تسمح له بالتأثير في الآخرين وتوجيه سلوكهم في سبيل بلوغ الأهداف المسطرة، وأن القائد الذي يتحمل هكذا مسؤولية لمنظمة خاصة لا يكتفي بمجرد سلطة رئاسية، هذه الأخيرة يحولها إلى فعل قياديو أي إلى تفاعل اجتماعي مبدع ومؤثر في محيطه.
وفي تحليله لشخصية المرحوم محمد بلوزداد، يستعرض الأستاذ الجامعي نظريات القيادة في علم النفس الاجتماعي ويسقطها على بلوزداد، منها نظرية القيادة الموقفية، حسب هذه النظرية أن القائد هو نتاج ظروف معينة وبروز القائد يرتبط بمواقف محددة، فالأزمة تلد الهمة.ويشير سعداوي إلى السياق التاريخي الذي ولد فيه المرحوم بلوزداد بتاريخ 3 نوفمبر 1924، وهذا معناه أنه بلغ سن التمييز والفترة التي تشكل فيها وعي الإنسان وهي فترة الحرب العالمية الثانية.
ويوضح أن هذه الفترة التي تمثل للجزائر المستعمَرة فترة تصاعد النضال الوطني وتزايد الآمال في نيل الاستقلال وذلك بسبب التطورات الهامة والحاسمة التي شهدتها هزيمة مدوية لفرنسا في 1940، هذه القوة التي كان يظن أنها لا تقهر، وإنزال الحلفاء في نوفمبر 1942 الذين جاؤوا يرفعون شعارات رنانة على شاكلة حق الشعوب في تقرير مصيرها، ثم ظهور بيان الشعب الجزائري في 1943، الذي التفّ حوله كل الجزائريين، لأول مرة، بكل أطيافهم السياسية وفئاتهم الاجتماعية، وأيضا ظهور حركة جماهيرية هي حركة أحباب البيان والحرية التي جعلت الاستقلال مطلبها الأساسي.
ويضيف الأستاذ الجامعي، أن الثورة على الاستعمار في هذه الفترة تحولت إلى ثورة كبيرة اكتسحت العالم كله وتحولت إلى ما يشبه عدوى صحية، تضاعفت في شكل أفعال وردود أفعال حتى أصبحت تقريبا روح العصر السارية والسائدة.وفي هذه الفترة أو هذا السياق، تشكلت أفكار وتصورات المناضل محمد بلوزداد وأبناء جيله حول الوطن والاستقلال والاستعمار، في هذا الجو تخلصوا من عقدة الخوف والرهبة من استحالة هزم الاستعمار، الذي كانت تهابه الأجيال السابقة.
وجاءت مجازر 8 ماي 1945 -يقول سعداوي- التي صبغت نضالهم بطابع ثوري خالص، وشرع في العمل الثوري وهذا ما حدث في 8 ماي 1945.
ويشير إلى أنه في هذا الجو سيبزغ هذا القائد ورفاقه وهم كثيرون.
وبالنسبة للبيئة المكانية التي ولد فيها بلوزداد فهو حي شعبي كبير بمدينة الجزائر يسمى بلكور سابقا، ويحمل اسمه اليوم.شهد الحي مطلع عشرينيات القرن الماضي حركة نزوح ريفي كثيفة في 1925 لأسباب عديدة، ما أدى إلى نشوء بيوت قصديرية وتزايدها، وأصبح عدد الجزائريين مساويا تقريبا لعدد الأوروبيين، ولم يكن هناك اختلاط بين المسلمين الجزائريين والأوروبيين وكان حيا لمجتمعين متعارضين من حيث العدد والأفكار والديانة، ولم تكن هناك اتصالات اجتماعية بين الطرفين، يقول سعداوي.
حي بلكور مشتلة لكوادر الحركة الوطنية
ويضيف: “كان الحي منطقة تماس واحتكاك بين عالمين متناقضين؛ عالم يزخر بالثراء والرخاء تسود فيه عادات غربية أجنبية، وعالم آخر وهو عالم الأهالي، الذين كانوا يعانون الأمرين من أجل الحصول على لقمة العيش ورغم ذلك كانوا يحافظون على ثقافتهم”.
وقال أيضا، إن هذا التماس كان يؤكد على مقاومة مفعول الزمان ورفض النسيان، لأن سعادة الآخر تقوم على تعاسة الطرف الآخر، ما ولد نوعا من الاستفزاز، الذي يتوجه إلى وعي الأهالي، ويحول عناصر الخمول في هذه الكتلة إلى قيم حركية، لهذا ليس غريبا أن يتحول هذا الحي بسرعة إلى معقل الحركة الوطنية ومشتلة لكوادر الحركة الوطنية وهم كثيرون، يوضح الأستاذ الجامعي.
في هذا السياق، يقدم الباحث نظرية أخرى في علم النفس الاجتماعي تكمل النظرية الأولى وهي نظرية السمات الشخصية.
ويوضح أن القائد يحتاج صفات معينة بعضها تولد معه وبعض الصفات يكتشفها من خلال التنشئة الاجتماعية، وهذه السمات أنواع، أهمها سمات إدراكية وانفعالية، وهي الكفاءة والذكاء والثقافة الواسعة.
ويروي في هذا الصدد، حادثة وقعت في مؤتمر بعد الكلمة الافتتاحية، التي ألقاها زعيم الحركة الوطنية مصالي الحاج، لتدخل أحد المندوبين وهو واعلي وأخرج مسدسه ووضعه على الطاولة وقدم اقتراحا مثيرا وقال لن يشرع في أشغال هذا المؤتمر، إلا بعد التصديق على قرار يتمثل في أن أي شخص يبوح بجانب من أسرار الاجتماع ومداولاته والمشاركين فيه يحكم عليه بالإعدام، ما أثار استغراب المجتمعين، وذكروه بأن الاستعمار يملك وسائل جهنمية للتعذيب ولا أحد يمكنه تحمل هذا التعذيب، وهنا وجد مصالي نفسه في حرج.هنا تدخل شاب صغير نحيف الجسم يجلس في آخر القاعة أخذ الكلمة وقال: “نقبل أن نصادق على القرار، لكن بعد أن ندخل عليه تعديلا بسيطا هو القول يستحق الإعدام بدل الحكم عليه بالإعدام”، والكل وافق على هذا القرار وحل الإشكال وهذا الشاب كان هو محمد بلوزداد، يضيف الأستاذ سعداوي.
شخصية لا تتكرر في تاريخ الأمة
يصف الأستاذ الباحث دحمان تواتي، من المركز الجامعي لتيبازة، المرحوم بلوزداد بأحد أبناء الجزائر العظماء الذي لا يتكرر كثيرا في تاريخ الأمة، ويشبهه بمحمد الصديق بن يحيي.
يقول الباحث، إن وفاة بلوزداد في سن مبكرة كانت خسارة كبيرة للحركة الوطنية حسب شهادات من عاصروه، مثل أحمد محساس وحسين ايت أحمد، وبن يوسف بن خذة. ولد فقيرا في المجابهة الحضارية مع الأوروبيين الذين يعيشون ظروفا مريحة ومجتمع الأهالي الفقير، أكثر من الفقر كانت الإهانة وكان الجزائري يوصف بكلمات حقيرة، وهناك قلة أوروبية مهيمنة مسيطرة.درس بلوزداد في المرحلة الابتدائية بحي بلكور وواصل في إحدى المدارس في أول ماي، تحصل على شهادة تعادل شهادة البكالوريا، وفي الوقت نفسه كان يدرس اللغة العربية في إحدى المدارس الخاصة وأتقن اللغتين معا ما أهله ليكون كاتبا موظفا في مديرية الشؤون الأهلية وهي بمثابة شرطة تراقب النظام السياسي والصحافة التي يمارسها الجزائريون.
كان بلوزداد في معقل النظام الاستعماري، كان ينقل وثائق مهمة عن الحزب ونشاط الأحزاب الأخرى والجمعيات والصحافة فانتبه إليه قادة الحزب في هذه المرحلة. ومن بين ما قام به في هذه المرحلة تأسيس حزب شباب بلكور مع رفاقه محساس وغيره وكان يضم تقريبا 400 عضو ما يدل على أهمية هذا التنظيم الذي ألحق بالحزب عن طريق أحمد بودة.
وفي هذه المرحلة شرع في العمل السياسي، وفي أول ماي 1945 كان له دور كبير في تنظيم المظاهرات بشعار “فليطلق سراح المعتقلين ومصالي الحاج” ورفعوا العلم الجزائري، وهنا سقط 5 شهداء في مدينة الجزائر وسادسهم في البليدة، يقول الباحث تواتي.
ويضيف، أنه بعد هذه المظاهرات أصبح محمد بلوزداد، مطلوبا لدى الشرطة الاستعمارية فهجمت على منزل عائلته ففر من النافذة وقامت الشرطة الفرنسية بإهانة أهله واعتقلت إخوته، واحدهم سحنون توفي في سجن الحراش بعد تعرضه للتعذيب.
اتخذ بلوزداد إسما سريا هو سي مسعود، ووجهه الحزب إلى قسنطينة لكي يعيد تنظيم فيدرالية الحزب بمقاطعة قسنطينة.
يذكر علال الثعالبي، أن مناضلي الحزب في الجهة الشرقية سخروا منه كيف لشاب صغير ينظم خلايا الحزب وهم كلهم كبار، عندما شرع في العمل التنظيمي والقيادي كلهم تأسفوا لأنهم أخذوا حكما مسبقا عنه، لأنه أظهر قدرة كبيرة على التنظيم وأحيا كل الخلايا وأنشأ خلايا أخرى، يقول الأستاذ الجامعي.
ويشير إلى أن بلوزداد كان مطاردا من الاستعمار ما أدى به للمبيت في المقبرة، ومثلما هو معروف في الشرق الجزائري البرد القارس، فكان لا يأكل كثيرا ولا يلبس جيدا فأصيب بمرض السل، نسي نفسه من أجل القضية وأفنى شبابه من اجل الجزائريين.
يذكر تواتي أن من إنجازات بلوزداد هو قدرته على تحويل الأموال، التي حصل عليها الحزب من شبكة بوادي سوف والمقدرة بـ2 مليون فرنك وهو لم يجد ما يأكل، اشتروا بها قطعا من الأسلحة التي وصلت الأوراس واستعملت في اندلاع الثورة ليلة أول نوفمبر 1954، وأرسل أيضا من يجمع السلاح من جنوب المغرب.
زار بلوزداد أماكن كثيرة وهي بسكرة، الخروب، قسنطينة.. هذا الإجهاد اثر على جسده رغم ذلك حضر الاجتماع السري في 15 نوفمبر 1947 واعترافا بدوره ومهامه أصبح عضوا في المكتب السياسي وفرض وجوده بتأسيس المنظمة الخاصة، التي أصبح على رأسها رغم انه ليس عسكريا، فرض قدرته التنظيمية والقيادية ما أهله إلى هذا المنصب ويصبح مؤسسا لهيئة الأركان ومنسقا. وضعه الصحي أجبر الحزب لنقله إلى المستشفى الفرنسي العربي بتغطية من الخدمات الاجتماعية للنقابة.ويؤكد الباحث أن بلوزداد هو أول من اكتشف الشهيد عيسات إيدير واقترح إنشاء لجنة اجتماعية في الحزب وهيئة نقابية للتعريف بالقضية الجزائرية.
وبحسب شهادة بودة، في الأيام الأخيرة لمحمد بلوزداد، سأله ماذا يحتاج فرد عليه: “أريد سماع الآذان وأنت لا تستطيع أن تحضره”.
يقول رفقاءه إن المرحوم كان الأكثر ذكاءً والأقل كلاما في المكتب السياسي.وقال عنه محمد حباشي، إن دخول الجهة الشرقية للثورة بقوة يعود إلى العمل الجبار، الذي قام به محمد بلوزداد. وتؤكد الشهادات أن المرحوم لم يكن يتظاهر بالثقافة الواسعة، وكان لا يفارق العمل أثناء مرضه في المستشفى، ويقدم القرارات السديدة، إلى أن توفي في 14 جانفي 1952.
ويشير الباحث تواتي، إلى إطلاعه على رسالة كتبت في صحيفة المنار ترثي فيها محمد بلوزداد بعد وفاته جاء منها:
«محمد بلوزداد شعلة متقدة مكافحة من المهد إلى اللحد، أنموذج التضحية في سبيل الوطن عاش قليلا وعمل كثيرا دون ضجيج أو شوشرة فكان مثال الوفاء، أبلى شبابه وأفناه في خدمة أمته ووطنه فما وهن وما استكان، إلى أن لبى نداء ربه وسدى تحت التراب يستحق كل الثناء.
لقد افتدى الوطن بكل ما يملك فيستحق الخلد بين أعز الخالدين، ما سكن يوما للذل ولا رضخ للظلم ولا استسلم لحظة للطغيان وبذل كل جهده لتحطيم الأغلال وإزاحة ليل الاستعمار عن أرضه وشعبه…
كان شابا في نشاطه وشيخا في تفكيره وتدبيره، عاش لأمته أكثر مما عاش لنفسه وقدم مصلحة وطنه وشعبه على مصالحه الخاصة وانشغل بقضيته الكبرى، فأنسته بهمومها الاعتناء بحياته القصيرة وجسده الذي أنهكه البرد والجوع ومرض السل.لقد كان شابا وموظفا مرموقا تبتسم له الأيام وتستقبله الحياة استقبالا، وورد للندى فولى وجهه عنها وأبى إلا أن يلتحق بالجزائر المكافحة، انخرط في حزب الشعب الجزائري في رمضان وهو يومئذ موظف وطالب في الحقوق وما هي إلا أيام حتى تبوأ مقعد القيادة وسهر على التنظيم، ثم اضطلع بتنظيم الشبيبة الجزائرية..”، إلى آخر الرسالة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024