مصادر تمويل متنوعة وحرب اقتصادية

السياسةُ المالية لثورة نوفمبر

محمد فرقاني

تميّز الاقتصاد الجزائري قبل الاحتلال الفرنسي بالطابع الزراعي إلى جانب بعض الصناعات الحرفية البسيطة المرتبطة بالإنتاج الفلاحي، وشرع المستعمر غداة الاحتلال مباشرة في اتخاذ آليات وإجراءات قهرية لمصادرة الأراضي وحصرها وتحديدها وانتهاج سياسة الاغتصاب الإداري، بتوقيع الحجز أو البيع بالمزاد، وبعد اندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر كان لا بد من نظام مالي وسياسة منتهجة تضمن تموين وتمويل الثورة التي لم تكتفي بالمعارك بالسلاح فقط.

انتقلت الثورة التحريرية إلى حرب اقتصادية تتمثل في ضرب مصادر تمويل المستعمر، غير أن ذكاء قادة الثورة، أبدعوا في بناء نظام مالي ورسم خطط جمع الاشتراكات وتنويع مصادر تمويل الثورة حتى لا تتعرض للاستنزاف والتقهقر.
ترتّب عن الوجود الاستعماري الفرنسي في الجزائر طيلة فترة الاحتلال تشوهات كبيرة في هيكل الاقتصاد الجزائري، وإنشاء قطاع اقتصادي مزدوج، يتمثل في قطاع عصري أوروبي متطوّر يستعمل وسائل إنتاج متطورة ويستغل أجود الأراضي، وقطاع ثان تقليدي ريفي جزائري يغلب عليه الطابع الزراعي، يستعمل وسائل إنتاج بدائية ويستغل الأراضي غير الخصبة (الهامشية) على سفوح الجبال والوديان.
وكرّست السياسة التجارية للمستعمر اعتبار الجزائر منفذا لتصريف السلع الصناعية، ومصدرا للتزود بمدخلات الإنتاج من المواد الأولية بأسعار منخفضة ويد عاملة رخيصة، وأصبحت الجزائر منذ سنوات الخمسينيات مستوردا صافيا للمنتجات الزراعية الغذائية.
وشهدت فترة ما بين (1930 - 1954) ركودا اقتصاديا في الزراعة والصناعة، وهو ما أدى إلى ارتفاع مُعدل البطالة خاصة في الأرياف ونزوح سكاني نحو المدن، حيث ارتفع عدد سكان المدن من 500 ألف ساكن سنة 1932، إلى 2 مليون ساكن سنة 1960، وارتفع عدد العمال الجزائريين بفرنسا من 93 ألف عامل إلى ما يقارب 200 ألف ما بين (1950-1960).
يرى أستاذ التاريخ بجامعة سكيكدة الدكتور بورمضان عبد القادر، في تصريحات لجريدة “الشعب”، أن الفترة بين نهاية 1954 حتى 20 أوت 1955 بمنطقة جيجل “كأنموذج دراسة قام بها حول السياسة المالية للثورة”، تميزت بالاعتماد على المساعدات والإعانات المقدمة من طرف الشعب، وبعد 20 أوت 1955 بدأت الثورة تعتمد على نفسها، فظهرت مراكز لجيش التحرير منها الثابتة والمنتقلة، وخصّصت الثورة أفواجا لشراء ونقل وتخزين مواد التموين وكذلك لحملها.
وعدّد الأستاذ بورمضان مصادر التمويل الأولى للثورة وأنواعها، ذاكرا في مقدمتها الاشتراكات، حيث اعتمدت الثورة عند بدايتها على الاشتراكات التي كان يقدمها الشعب، وقد كانت قيمتها في البداية 1 فرنك ثم أصبحت 2 فرنك ثم 2.5 فرنك حتى سنة 1956، وكان الاشتراك إجباري على جميع أفراد الشعب ويقدم بدون وصل، أما التبرع فكان يقدم ويسجل بوصل وكان المسبّلون هم المكلفون بشراء التموين.
وأضاف محدثنا، أن الاشتراكات يجمعها مسؤول المشتة وتدفع للمكلف بالمال على مستوى المجلس الشعبي أي مجلس الدوار، واستشهد الاستاذ بورمضان بما ذكره المجاهد “بوتيونة محمد” الذي التحق بالثورة سنة 1955 جنوب جيجل “أنه وبرفقة على بن النية كانا يجمعان الاشتراكات ويسلمون أموالها لمسؤول المشتة”.
وأشار بورمضان إلى طريقة ثانية في جمع المال وتتعلق بالزكاة، حيث كانت الزكاة إحدى المصادر المالية للثورة في بدايتها وكانت تقدم من طرف المواطنين ويجمعها مسؤول “الدوار”، وتخصّ زكاة المال وزكاة الماشية وزكاة الزرع “العشور”.
وفي ذات السياق أضاف أستاذ التاريخ بجامعة سكيكدة حول ضريبة المال المفروض، وذكر بأنه في بداية الثورة فرضت ضريبة سميت بالمال المفروض وطبقت على بعض الأغنياء والتجار ولكنها لم تستمر بعد 1956.
ولم تكتف الثورة بالمصادر المذكورة بل بسّطت سيطرتها على أملاك المستعمر الفرنسي، كما منعت المعمرين أصحاب أشجار الزيتون والأراضي من استغلالها وسخّرت لصالح الثورة واسترجعت أراضي المعمرين.

مؤتمر الصومام
يضبط نظام الإشتراك

في ذات السياق، يرى أستاذ التاريخ بجامعة سكيكدة، الدكتور بورمضان عبد القادر أن مؤتمر الصومام 1956، ضبط نظام الاشتراك وأعطاه صفة إلزامية على الجماهير الشعبية وبصفة منتظمة شهرية، وحدّد بنود من يرفض دفعها وهي عقوبة الزجر حتى الإعدام، وقد كان الحدّ الأدنى للاشتراكات بالناحية الثالثة المنطقة الأولى هو 2 فرنك ثم أصبح 3 فرنك أما الحد الأقصى فلم يكن محددا.
وأضاف بورمضان “حافظت الثورة على الزكاة كمصدر من مصادر تمويلها بعد مؤتمر الصومام وكانت تأخذها حسب قواعد الشريعة الإسلامية، وذلك عن المواشي والأموال المنقولة والعقارية ويقدّم عند استلامها صك، وكانت أموال الزكاة تجمع من طرف مسؤول الدوارالذي يقدّمها لمسؤول التموين بالقسم”.
بالإضافة إلى هذا، تعتبر الهبات والتبرعات التي كانت تقدّم من المواطنين من مواشي وحبوب ولباس وأموال وأسلحة مقابل صك رسمي، من أهم مصادر تموين وتمويل الثورة، دون نسيان الغنائم المجلوبة من العدو، وهذه الغنائم كانت تسجّل في دفاتر وتُضمن في التقارير الشهرية الموجهة إلى قيادة الولاية ولا يحق لأحد أن ينتقص منها، وكانت الثورة تفرض على من يتأخر في دفع الاشتراكات والزكاة عقوبات تأديبية تستعمل في تزويد جيش التحرير بالسلاح واللباس أو دفع المرتبات أو تقديم منح لعائلات الشهداء أو مختلف التجهيزات الإدارية للثورة من حبر وأقلام وورق وبطاريات وآلات.

ثورة شاملة ومعارك اقتصادية  

قال الدكتور محمد الأمين بلغيث في تصريحات لجريدة “الشعب”: “كانت ثورتنا ثورة شعبية وثورة ريف على نظام “كولونيالي” رهيب أحكم سيطرته على المال واستعبد الرجال، وراقب حركات وسكنات الجزائريين”، مشيرا إلى أن الشعب الجزائري عبقري بامتياز حين وجد من يوجّهه للبناء والفعل الثوري.
وأشار بلغيث، بأن الاهتمام بالإنتاج الزراعي والتجارة كان من أساسيات حياة ونمو هذه الثورة، التي عمّمت الاعتماد على النفس أولا ومقاطعة بضائع الاستعمار مثل منع وتحريم التدخين و«الشمة”، وحرق محاصيل المعمرين.
وفي ذات السياق، أوضح محدثنا أن هذا الفعل هو الحرب على مشاريع الاستعمار ومصادر تمويل آلته العسكرية، وقد بدأت في المناطق الغابية “الشمال القسنطيني مثلا بحرق إنتاج الفلين”، ثم محاصرة تمويل وتصدير هذه المادة الحيوية لتموين اقتصاد فرنسا الاستعمارية.
وانتهى الأمر إلى تعطيل نقل وإنتاج البترول من حاسي مسعود وتعطيل إنتاج الغاز في عين صالح وغيرها، وهو الأمر الذي أدّى إلى مواجهات عنيفة بين المجاهدين وقوات فرنسا الاستعمارية في أقصى الجنوب الغربي، مثل معركة “إسيين” بالقرب من “غات” بليبيا في أكتوبر1957م.
ويوضّح المؤرخ والباحث الأكاديمي بلغيث، أن الثورة اهتمت بتوجيه السكان إلى الفلاحة والغرس في أشد سنوات الاستعمار ترهيبا وتقتيلا ونفيا واعتقالا للناس، وكانت أشهر وسيلة مدمّرة قامت بها السلطات الفرنسية الجيش والشرطة المتنقلة الريفية “GMPR” هو تطويق مصادر تموين الثورة.
وأنشأت فرنسا نظام مدنيا يقوم على مراقبة المداشر والقرى والأرياف” نظام لاصاص ”SAS”، وأصبحت المعتقلات تمثل صورة مرعبة تنتشر في كل أرجاء الوطن، والقاعدة التي تعلّمها الشعب هي أن هذه المراكز “الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود”، ولكن أي ولادة فقد يخرج منها المواطن بعاهات ستنتقل معه إلى غاية وفاته يقول الأستاذ بلغيث.
ويضيف محدثنا أن هذه المعتقلات بشاهدة الدارسين “سعدي بزيان خاصة” عبارة عن سجن لمعظم الشعب الجزائري من أجل خنق الثورة.

المهاجرون يُدعّمون الثورة بأموالهم

وأشار الأستاذ والباحث الأكاديمي الدكتور محمد لمين بلغيث إلى تفطن المجاهدين ورجال الاستعلامات “المالغ” إلى أهمية اشتراكات وتموين التجار والمهاجرين الجزائريين في كل أنحاء العالم، ولهذا يقول بلغيث “ستصبح الهجرة الجزائرية خاصة في أوروبا تمول الثورة بأكثر من 77 في المائة من ميزانية الثورة، ما يعادل حوالي 2 مليار فرنك فرنسي”.
وأشار المؤرخ إلى إمكانية الرجوع إلى شهادات الأستاذ الطيب بلولة والدكتور عمار بوحوش والمناضل الشهير محمد بجاوي مع شهادات موثقة للمجاهد عمر بوداود، خاصة منذ سنة 1957م السنة الفارقة في تاريخ الثورة بالجزائر، وحتى نتعرّف على مبلغ وحجم مساعدة الجالية الجزائرية في أوروبا عامة وفرنسا خاصة في تموين ميزانية الثورة الجزائرية.

الدول العربية تدعّم ثورة نوفمبر

من جهة أخرى يرى المؤرخ والأستاذ محمد الأمين بلغيث، أن موضوع تموين الثورة في الداخل ومن خلال الهجرة الجزائرية بفرنسا كانت المصدر الأساسي الأول لقيام هذه الثورة، ويقول “لكن حتى نكون أمناء مع أنفسنا فإن الثورة كانت ثورة كل العرب كما قال المؤرخ “بن يامين ستورا” في مجلة “نوفيل أوبسيرفاتور”، حيث ألزمت الجامعة العربية دولا مثل العراق، مصر والسعودية بدفع مبلغ مالي ثابت.
وأضاف محدثنا أنه وحتى تكون الصورة واضحة كانت الهجرة الجزائرية في تونس عصب الحياة للثورة على قلة ما في أيدي الجزائريين في الريف والمدن، كما كانت مراكز الحزب الدستوري التونسي تقوم على جمع الأموال الدورية وكانت اللجان تحت إشراف شخصيات اعتبارية ذات تأثير كبير على المجتمع التونسي مثل محمد جعيط مفتي تونس الشهير وبعض أساتذة جامع الزيتونة المعمور.
وفي ذات السياق، أفاد بلغيت أن الدول العربية دون استثناء كانت تقدّم الأموال والتبرعات حتى الجالية الفلسطينية كانت لها مساهمة كبيرة في معركة التحرير، ومنذ 1958 أصبحت العراق تقدّم ميزانية ثابتة للثورة، وأول مال عربي دعم الثورة كان في جانفي 1955م تبرعت به المملكة العربية السعودية بعد رسالة الشيخ البشير الإبراهيمي إلى الملك سعود، وهذا لتمويل أول شحنة سلاح مصرية وصلت إلى المغرب ومنها إلى الجزائر.
وأشار بلغيث، إلى أن تفاصيل هذه الأموال متوفرة بشكل واضح في كتاب محمد بجاوي الأخير”ثورة في مقام رجل” الصادر عن دار النشر الشهاب عام 2017، ومن جهة ثانية يشير بلغيث إلى أنّ مسألة تمويل وتدعيم الثورة ومصادر المال الذي كان يحرّك أجهزة ثورة اشتهرت بأنها أيقونة القرن العشرين تبقى في أمس الحاجة إلى الوثائق والشهادات حتى نقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت.
ويرى محاورنا، أن قضية المحاسبة المالية صعبة جدا، لكن تبقى الثورة الجزائرية من الثورات العالمية التي ظهر في رحمها شعب معوان على الخير ورجال بلغوا درجة عالية من القداسة ونظافة اليد.
وأضاف بلغيث قائلا، “ كان موضع أموال الثورة سيثير زلزالا عنيفا بعد الاستقلال، وما أسهل أن تتهم رفيق السلاح بتحويل أموال الثورة” لهذا يرى المؤرخ أن الأمر يحتاج أن نعود إلى المؤرخين وشهود المرحلة النزهاء بعيدا عن شيطنة أي كان دون دليل.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024