مع أول خيوط الفجر، يطرق العيد أبواب الجلفة بصوت التكبيرات التي تتردد في الأزقة، تخرج من مكبرات المساجد ومن حناجر المصلين، تحمل معها طمأنينة تسري في القلوب، وكأنها إعلان بقدوم يوم مختلف، يوم لا يشبه سواه.
المدينة كلها تستيقظ على وقع هذه الأجواء. رجال يتطيبون ويرتدون القشابية أو العباءة البيضاء، وأطفال يركضون بين الغرف، مستعجلين للخروج إلى صلاة العيد. الأمهات يوزعن التمر على أفراد العائلة قبل مغادرتهم، بينما الآباء يراقبون المشهد بنظرات يملؤها الرضا. قبل الانطلاق إلى المساجد، تتهادى القبلات على رؤوس الآباء والأمهات، دعوات صادقة تملأ المكان دفئا، وكأن العيد يبدأ من هنا.. من هذه اللحظات الصغيرة التي تعيد للقلوب صفاءها.
في المسجد، وبعد أن يفرغ الإمام من خطبته التي تدعو للمصالحة والتسامح، تمتد الأيدي وتتعانق القلوب، “تقبل الله منا ومنكم”، “عيدكم مبروك”..كلمات بسيطة لكنها تحمل في طياتها كل معاني المحبة. في الشوارع، يواصل المارة تبادل التهاني، حتى الغرباء يبتسمون لبعضهم، وكأن المدينة كلها تحولت إلى عائلة واحدة.
في البيوت، تكتمل الصورة. الجميع يلتف حول الجدات والآباء، ضحكات الأطفال تتقاطع مع أحاديث الكبار، ومائدة العيد تفرد سجادتها العامرة بالقهوة والشاي والمقروط والغريبية، تفوح منها رائحة الزهر والسمن، وكأنها تحمل نكهة الزمن الجميل.
لكن العيد لا يبقى حبيس البيوت، ففي الشوارع والساحات، يخرج الجيران حاملين أطباق الرفيس واللبن، يضعونها أمام بيوتهم ليشاركوا بها كل من يمر، في لفتة دافئة تعكس كرم أهل الجلفة وروح العيد التي تجعل الجميع عائلة واحدة.
أما الأطفال فبملابسهم الزاهية يملأون الأزقة ضجيجا وفرحا، عيونهم تلمع وهم يجمعون “العيادة”، تلك النقود الصغيرة التي تعني لهم كنزا من السعادة. الفتيات كعرائس صغيرات بحقائبهن اللامعة، والأولاد يحملون الألعاب والبالونات، يتجولون بين المحلات، يختارون بعناية أكياس الشيبس وقطع الشوكولاتة، ويرسمون بها لوحة من الفرح تبقى محفورة في ذاكرتهم.
في المساء، يكتمل المشهد بالزيارات العائلية، والجلسات التي تمتد إلى ما بعد منتصف الليل، حيث الحكايات لا تنتهي، والذكريات تتجدد، وكأن العيد يرفض أن يودعنا سريعا. لكن لا بأس، فعيد الأضحى قريب، والفرحة التي زرعها هذا اليوم ستظل تزهر حتى نلتقي به من جديد.