الأسـير منصـور موقدة.. الرّجـل السّلكي

بقلم: عيسى قراقع

 ربما لا يصدق أحد أنه في فلسطين وفي منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط يعيش رجل سلكي جسمه كله من أسلاك، يتحرك بالأسلاك، ويمشي بالأسلاك ويأكل بالأسلاك، وحوله أسلاك من كل صوب.

 وفي زمن الاحتلال الصهيوني ومن خلال الخبرة التكنولوجية الفائقة لدولة الترسانة المسلحة في المنطقة استطاعت أن تحول الإنسان من بشر إلى كائن آلي، يستطيع أن يعيش حاملا أسلاكه بدلا من شرايينه، يتنفس بالأنابيب ويبول بالأنابيب المحمولة على أكياس والمتدلية من خاصرتيه.
إنّه الرجل السلكي الاسير منصور محمد عبد العزيز موقدة سكان سلفيت المحكوم 30 سنة، والمصاب بالشلل ويتنقل على كرسي متحرك في ما يسمى عيادة مستشفى الرملة منذ اعتقاله عام 2002، بعد إصابته بوابل من الرصاص الدمدم والمتفجر الذي مزق جسده ودمر أعضاءه الداخلية، ولم يصحو من الموت المتوقع إلا بعد 30 يوما من غيبوبة طالت في مستنقع من الدم.
أطباء سجون الاحتلال ركبوا له شبكة معقدة من الأسلاك في الحوض والبطن والعمود الفقري، بعد أن وجدوا أن قدميه قد شلتا تماما، وها هو حيا، بطنه متكور ومعدته جميعها من الأسلاك وبحاجة إلى شبكة فولاذية أخرى بعد أن تدهور وضعه الصحي مؤخرا، وربما سيحتاج إلى سلك آخر للتنفس من الرقبة بعد أن أصيب بأزمة صدرية حادة.
يقول منصور عن نفسه أنه الشهيد الحي، أو الشهيد القادم، وبدأ يرتب ليوم الآخرة فاشترى كفنا أبيض لأنه يرفض أن يوضع في كيس اسود، وكتب وصيته بأن يدفن في جوار البيت ويزرع حول قبره شجرة زيتون، موضحا انه يعيش في قبر وجميع من حوله مشاريع موتى، وقد بدأوا يغادرون داخل أكفانهم واحدا واحدا.
الرّجل السلكي يرى أطباء ينتظرون أن تحين ساعة حتفهم، هؤلاء الأسرى المعاقين والمشلولين والمصابين والمقطعة أعضاءهم، أغلقوا ملفاتهم الطبي قائلين لهم: ستبقون على هذا الحال حتى تحين ساعتكم، لا دواء ولا فحص ولا شفاء، سنبقيكم أحياء حتى الشهقة الأخيرة، وإن عدتم ستعودون مغمضي العيون غير قادرين على رؤية المشيعين في تلك اللحظات.
الرجل السلكي الذي يحمل أكياس بوله وبرازه وتعيش في جسمه أسلاك متعددة، تصيبه رعشات سلكية بين فترة وأخرى، يرتجف ويرتعش، نوبات كهربائية لا توقفها المسكنات والنظرات الساخرة.
منصور موقدة قدره أن يمر عنه الأموات والأحياء في عيادة هي أسوأ من السجن، يعيش فيها 20 أسيرا مريضا ومدمرا، معزولين عن الحياة واليقين، يراقبوا أرواحهم صعودا وهبوطا تتوجع وتسير في أسلاك أجسامهم لا تجد لها سقفا للطيران.
الرجل السلكي يسمع صرخات الألم واحتكاك الأسلاك باللحم والعظم في أجساد رياض العمور وناهض الأقرع واسراء جعابيص ونضال ابو عاهور وياسر رباعية وموفق العروق وعلاء الهمص ومراد أبو معليق وسلام الزغل وسعيد البنا وفؤاد الشوبكي ورشدي ابو مخ ومحمد براش، ويرى أعضاء كمال ابو وعر تنكمش ولسانه يتوقف وتصدا أسلاكه وتتكوم على عجلات لا طريق أمامها سوى الصمت.
الرجل السلكي يتوجّع من أورام جديدة برزت في رقبته، ومن شظايا حديدية منتشرة في جسمه، ومن رائحة بارود هي أقوى من رائحة الدواء المتناثر في الهواء المخنوق.
الرجل السلكي أطلق لحيته حدادا على نفسه، بعد أن شاهد زهير لبادة وأشرف أبو ذريع وحسن ترابي وعرفات جرادات وميسرة أبو حمدية وزكريا عيسى وسامي ابو دياك وبسام السايح وسعدي الغرابلي وفارس بارود يخرجون أمواتا تاركين وراءهم قطعا من أجسادهم وسعالهم وملح جروحهم ونداءاتهم الموجعة.
الرجل السلكي يتهيأ للموت، لا جرعات كيماوية أنقذت معتصم رداد، ولا حبوب المسكنات أيقظت خالد الشاويش من نومه العميق داخل شلله وإعاقته الدائمة، لا أقدام لناهض الأقرع، ولا عيون لمحمد براش، وإياد نصار، ولا من يقرع الباب ليزورهم ويبتسم للذاهبين إلى العدم.
الرجل السلكي رأى كيف أنّ عددا من الأسرى المرضى حاولوا الانتحار يستعلجون الرحيل لإيقاف الموت البطيء، يرسمون النهاية، ويحلقون في أغانيهم الخاصة، وحدهم يقيمون الصلاة بلا آذان وبلا آيات مسموعة جالسين ساكتين.
منصور موقدة انتظر، سيزورك ممثل منظمة الصحة العالمي، وأمين عام هيئة الأمم المتحدة، وطواقم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والإعلاميون من كل مكان، للإعلان عن رجل استطاع أن يبقى حيا، يعيش بالأسلاك، ويصافح الناس بالأسلاك، ويتحرك على الأسلاك، ويكون اكتشاف عالمي يضيف إلى المنظومة الإنسانية والعدالة الكونية فجيعة أخرى من فجائع الحرب، وجريمة جديدة من جرائم دولة الاحتلال، وستراهم كلهم مندهشين وخائفين.
الرجل السلكي ما زال له مشاعر وأحلام بالحب والعودة، وهذا ما أدهش السجانين الذي اعتقدوا أنهم نزعوا إنسانيته وحولوا جسده إلى هيكل وظيفي، لازال قادرا على الكلام واجتراح الأمل، يدرب أسلاكه على الصمود أكثر، ويرسم خطوات منفلته من دائرة الشيك ويتجه صوب القلب.
منصور موقدة المحشور في آلامه الفائضة، والمسيج بالإهمال الطبي وبعشرات الأبواب المغلقة وبجروح مفتوحة تتدلى منها أسلاك الأطباء الشائكة، لا يريد منا غير أن نحميه من التدمير، أن يظل جسده متماسكا، أصابعه، عيناه، قدماه، بحره ومقاس جنازته، رجاؤه المقدس أن يعانق الحرية قبل أن يغمض عينيه ويرى الأولاد.
حـالات المـرضى الصّعـبة
الأسير منصور موقدة من سلفيت المعتقل منذ عام 2002، وهو محكوم بالسّجن المؤبد، تعرض موقده للمطاردة قبل الاعتقال، وأثناء اعتقاله اشتبك مع قوات الاحتلال لساعات في بلدة سينريا في قلقيلية، وأصيب إصابات بليغة، تسببت بإصابته بشلل نصفي حيث يعتمد على الحركة بواسطة كرسي متحرك.
لقد خضع موقدة المحكوم بالسّجن مدى الحياة، لعدة عمليات، خلالها تم زراعة معدة بلاستيكية له، كما أنّ أجزاءً من أمعائه خارج جسده، إلى جانب معاناته من آلام دائمة في كافة أنحاء جسده. يعتبر الأسير موقده أقدم الأسرى المرضى القابعين في سجن الرملة، إلا أنه تعرض بعد الحرب لعملية قمع ونقل من سجن (الرملة) إلى سجن (عوفر). وواجه الأسير موقده منذ يوم اعتقاله جرائم طبية ممنهجة تندرج ضمن إطار عمليات (القتل البطيء)، التي يواجها المئات من الأسرى المرضى في سجون الاحتلال.

الأســـير مـتزوّج ولــه أربعة من الأبنـاء
بعد عامين على اعتقاله توفى والده إثر حادث مؤسف، وفقد والدته، وحرمه الاحتلال من وداعهما. يذكر أنّ عائلته عانت طويلا من الحرمان من الزيارة لسنوات. (الأسير موقدة تحرر ضمن الدفعة السابعة)

 

رأيك في الموضوع

« أفريل 2025 »
الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد
  1 2 3 4 5 6
7 8 9 10 11 12 13
14 15 16 17 18 19 20
21 22 23 24 25 26 27
28 29 30        

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19737

العدد 19737

السبت 29 مارس 2025
العدد 19736

العدد 19736

الجمعة 28 مارس 2025
العدد 19735

العدد 19735

الأربعاء 26 مارس 2025
العدد 19734

العدد 19734

الثلاثاء 25 مارس 2025