كتبت في تظهيري لكتاب “أسرى وحكايات” لصديقي الأسير أيمن الشرباتي (المواطن): “قصّة أسرانا لم تُحكَ بعد؛ بقيت مُهمّشَة، منسيّة ومُغيّبَة... لكلّ منهم حكاية وقصّة، وهناك ضرورة ملحّة لتوثيقها، كلّ أسير وحكايته، وروايتها جمعاء تشكّل فسيفساء لأسطورة نضاليّة يشهد لها التّاريخ.
تلك اللوحة لم تكتمل بعدُ؛ لأن معظمهم لم يحكوها و/أو لم يكتبوها، ولكلّ ظروفه وأسبابه، وها هو الأسير أيمن الشّرباتي يُصدر بعضًا ممّا دوّنه من فنّ السيرة في السجون ليضع لبنة ويبني مدماكًا في طريق شاقّ وطويل نحو الحريّة المنشودة؛ لعلّها تسهم في الفكاك المرجوّ من تلك المحنة التي تلازمه مذ أًقفلت خلفه بوّابة الزنزانة، وما زالت الأقفال تنتظر مفاتيحها، والقيود ترنو إلى من يحطّمها”.
وها هو الدكتور فاروق عيسى عاشور يتحرّر من غياهب السجون ويُصدر مباشرة وثيقة بعنوان “ذاكرة الجدران الُمُعتمة” (سيرة ذاتيّة وجماعيّة للأسرى في سجون الاحتلال بعد الطّوفان، 175 صفحة، تحرير: محمد يونس عمرو، سبتمبر/ 2024)، اعتقل يوم 27 أكتوبر 2023 وتم الإفراج عنه يوم 25 آب 2024. جاء العنوان صادماً؛ وهل للجدران ذاكرة؟ نعم، الجدران هي الشاهد على الجريمة النكراء بحقّ أسرانا، شاهدة على كلّ كبيرة وصغيرة، صمّاء بكماء، وآن الأوان لتحدّثنا عمّا يجري في العتمة ونصغي لها.
أخذني العنوان مجدّداً لرواية “حكاية جدار” لصديقي الأسير ناصر أبو سرور، إنّها حكاية جدارٍ قرّرَ أن يختاره شاهدًا على ما يفكّر به ويقول ويفعل... لقد أعطاه الجدار صِفاته وألقابه كلّها منذ بداية المشوار، في المخيم، على هامش المدينة، في السجن، وفي قلب امرأةٍ أو على أطرافه. راق لي الإهداء “أهديه للحريّة المشنوقة بحبل الاحتلال وإلى الأحرار في كلّ العالم”.
فالحريّة السليبة والمشتهاة هي الأجدر بالإهداء لعلّها تحرّك ساكناً وتعانق أحرارنا. كان التقديم من نصيب زميل الأسر عقل ربيع فكتب بعفويّة يُحسد عليها “ولعلّ من تقاليد تقديم الأعمال الإبداعيّة أن يشير كاتب المقدّمة إلى فصول الكتاب، وأن يلخّص مضمونه غير أنّني لن أفعل ذلك، ولن أحرم القارئ من متعة الغوص في الكتاب، رغم سرده لأحداث مأساويّة، ليكتشف وحده ما فيه من إبداع وجمال وقيمة إنسانيّة”.
وكذلك تقديم آخر من نصيب صديقتي لمى خاطر (أسيرة محرّرة ذاقت مرارة الأسر وتجربة الاعتقال لدى الاحتلال في المرحلة التي أعقبت “طوفان الأقصى” والتقيتها في باستيل الدامون) وكتبت: “هذا الكتاب يشكّل إضاءة مهمة ودقيقة ومفصّلة وواقعيّة ووافية حول واقع السّجون بعد الحرب من كلّ النواحي، مقارنة بما كان عليه الوضع قبلها، خصوصاً أنّ تجربة السّجون بعد الحرب أصبحت كأنها جديدة...
ولعلّ هذه الشهادة المكتوبة بحروف الألم والأمل، والتّعب والتحدّي، كفيلة بحثّ واستنطاق شهادات أخرى توثّق ما جرى من زوايا أخرى، تتكامل لتصنع صورة شاملة لا يجوز السماح بنسيانها أو إسقاطها من ذاكرة هذه المرحلة، المثقلة بالوجع والمدفوعة إلى الأمام باليقين”.
تناول الدكتور عاشور بداية موضوع السجن وأثره، فلسفياً وتاريخياً، ولمحة عن تاريخ الحركة الأسيرة في بلد المليون أسير ونضالاتها عبر السنين والصراع المستديم بين الأسير وسجّانه وإدارة السجون، عبر التضحيات الجسيمة التي حقّقت إنجازات وفجأة “تمّت إعادة الزمن إلى الوراء لدى الأسرى دفعة واحدة، وتمّ خنق الحركة الأسيرة بسرقة كل الحقوق، ونسف كلّ الإنجازات، وإلغاء كلّ القرارات التي كانت في صالح الأسير.
انهيار كامل لمنظومة القوانين والقيم، عاد الاحتلال إلى وجهه القاتم الذي ظهر على حقيقته، كلّ ذلك دفعة واحدة مع هدير طوفان الأقصى” . (ص. 28) صوّر مشهديّة الاعتقال المنتظر؛ أحسّ بعبء المسؤولية الملقاة على عاتقه حين بادر إلى أن يكون جزءاً من تيّار العمل الوطني الرديف للشعب الفلسطيني في غزة، وانخرط في أداء واجبه عبر استعمال وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات التغيير والتضامن مع الأهل في غزة، وشارك في الهبّة الشعبيّة التي حاول الاحتلال وأدها بشتّى الوسائل القمعيّة والترهيبيّة عساه يقتل هذا النشاط في مهده، ولذا توقّع الاعتقال وتربّص له خلف الباب.
فاجتياح بيته الثانية فجراً لم يفاجئه، “عمليّة الاعتقال اتّصفت بالغلظة والفظاظة دون الضّرب، تم ربط يديّ بالقيد البلاستيكي الحادّ وشدّهما بعنف وراء ظهري، عُصبت عيناي بقوّة، ثم دفعت إلى داخل المركبة العسكريّة” (ص. 41)، مشهد سمعته مراراً وتكراراً من أسيرات وأسرى التقيتهم عبر القضبان، يعود عليّ نفسه بالتمام والكمال وكأنّي أشاهد فيلماً سينمائياً للمرّة الخمسين، ورغم ذلك شعر بالقوّة تجاه الجنود المدجّجين بالأسلحة ورغم ذلك فهم خائفون مذعورون، وجاءته كلمات تميم البرغوثي “الموت فينا وفيكُم الفزعُ”.
صوّر بمشرطه درب الآلام مذ ساعة الاعتقال، رحلة العذاب بشاحنة الاعتقال من البيت إلى معسكرٍ لجيش الاحتلال قرب الخليل، وما يرافقها من آلام القيد البلاستيكي (شاهدت آثار تلك القيود مراراً وتكراراً لدى الكثير من الأسيرات والأسرى وما زالت راسخة في ذهني صورة الأسير عز الدين الحمامرة من لقائنا يوم 08.03.2023 في سجن عسقلان حين أزاح القميص عن رسغيه وأشار إلى آثار تلك الكلبشات البلاستيكيّة التي تغلغلت عميقاً فيهما وكأنّها أساور خُلِقت معه)، وحفل الاستقبال في معتقل/ معسكر عصيون وما تضمّنه من سبّ وشتم وفحش وبذاءة (وكأني به يتستّر عن شتم الذات الإلهيّة) وتفتيش عارٍ مقيت بالكامل (آخذني مجدّدا لما سمعته من أسيرات وأسرى التقيتهم في الأشهر الأخيرة، متطابق بالكامل) والفحص الطبّي “استقبلنا كباقي الجنود من طينته… تجاهل كلّ ما فينا من كدمات وآثار اللكمات، وخيوط الدم وتقشّر الجلد وخطوط القيود، وتعامى عن أجسادنا المنهكة المعفّرة بالتراب،… ليس له دور إلّا أن يكون شاهد زور” (ص. 48)، مشهد يتكرّر ثانية بالتمام والكمال حين الوصول إلى سجن عوفر.
يا إلهي؛ دور الطبيب أخذني لزياراتي لمسلخ الرملة وما سمعته من شهداء الحركة الأسيرة (كمال أبو وعر، وليد دقّة، خالد الشاويش وغيرهم) وإلى ما جاء في كتاب صديقي الأسير المحرّر راتب حريبات “لماذا لا أرى الأبيض” وكتاب “آهات من سجن الرملة” للأسير الراحل زهير لبادة. وكأنّي بالطبيب أبقراط يتقلّب في قبره حين سماعه وقراءته هذه الشهادة وحنث هؤلاء الأطباء بقسَمِه المتعارف عليه منذ آلاف السنين.
ابتسمت حين قرأت مشهديّة استقبال أسير جديد من قبل زملاء الأسر؛ استجواب مذهل بتفاصيل التفاصيل عمّا يجري في الخارج بسبب الانقطاع التام، فتذكّرت لقائي بالأسيرة المحرّرة أناغيم عوض في سجن الدامون “كلّ قادمة جديدة تمرّ باستجواب مطوّل حول الوضع في الخارج، وأحوال المعارف المشتركين، بتفاصيل التفاصيل، “أصعب من تحقيق الشاباك”.
وكذلك الأمر حين التقيت الأسير المحرّر سليمان كعبي في سجن مجيدو “كل أسير جديد، بتقاتلوا عليه الشباب عشان يخبّرهم عن الوضع برّا، ويا ويله إذا نسي إشي، وإذا كان حبسِة أولى “بِلتْمِس”، فش راديو “زيّ اللّي قاعدين بقبِر، ولا بنعرف إشي”.
لم تكن الحبسة الأولى للدكتور فاروق، وجد السجن غير السجن الذي عرفه سابقاً؛ لقد تم حلّ الهيئات الإداريّة والتنظيميّة وتفكيك قيادة الحركة الأسيرة ممّا أدى إلى نشر الفتنة وزعزعة الاستقرار النسبي، حيث نجح السجّان بتجنيد بعض ذوي النفوس الضعيفة الذين، وللأسف، تجاوبوا معه وجاءه ما قاله أبو الأسود الدؤلي قبل مئات السنين:
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم
وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا
وَالبَيتُ لا يُبتَنى إِلّا لَهُ عَمَدٌ
وَلا عِمادَ إِذا لَم تُرسَ أَوتادُ
فَإِن تَجَمَّعَ أَوتادٌ وَأَعمِدَةٌ
لِمَعشَرٍ بَلغوا الأَمرَ الَّذي كادوا
وكذلك الحرمان من كلّ المقتنيات ومصادرة الممتلكات، فرض قيود وتضييقات معيشيّة، الإهمال الطبي المتعمّد وما يرافقه من محاولات القتل البطيء، وتفشّي الأوبئة والأمراض ومنها السكابيوس (الجرب)، الاستعمال المفرط للعنف والقوّة غير المبرّرة في معاملتهم، رحلة البوسطة لمقابلة الشاباك وضباط المخابرات وما يرافقها من ساديّة قوّات النحشون والكلاب البوليسيّة، صناعة حالة دائمة من عدم الاستقرار المعيشي والنفسي للأسرى من خلال تحكّم السجّان بالضوء والهواء والتسلّط المطلق على كل شيء مثل التحكّم بالطعام والتنقّلات المتكرّرة من غرفة إلى أخرى ومن قسم إلى آخر ومن سجن إلى آخر ومصادرة الأحذية واستبدالها بالبابوج البلاستيكي ومصادرة الملابس ومنع الحلاقة ومصادرة الشفرات ومصادرة مقصّ الأظافر ومنع استعمال المرآة... ومصادرة المسابِح!
وكذلك إثارة الفتنة والاندساس من شرخ الانقسام الفلسطيني الداخلي. تناول الكاتب محاكم الاحتلال الصوريّة والشكليّة وظاهرة الاعتقال الإداري وإشكاليّة التمثيل القانوني وتقصير المؤسسات التي تُعنى بشؤون الأسرى (لن أتطرّق لهذا الأمر في قراءتي للكتاب، ولديّ الكثير ما يُقال وسأتناوله لاحقاً).
يصل الدكتور فاروق إلى خلاصة مفادها أنّ الصّمود يكسب الرّهان؛ عملت الإدارة على التفرقة بين الأسرى وإثارة الفتنة والعداوة والخصومة بينهم ولكن كانت النتيجة عكسيّة حيث انطفأت نار الخلاف وأزهرت الألفة والمودة، وكذلك الحال بالنسبة لإدارة خدمات الأسرى حيث رتّبوا أمورهم فيما بينهم بالتراضي والاتفاق واستثمروا الموارد المتاحة، وتناول الحالة النفسيّة والعاطفية التي عايشها الأسرى في ظلّ الانقطاع عن الأهل والعالم الخارجي وغياب الأخبار فصار القوي يحمل الضعيف ومنهم الشعراء والأدباء أمثال عقل ربيع وعمرو سدلة وغيرهما، وصارت ممارسة الرياضة خلسة عن الإدارة ممّا تحمله من طاقة إيجابية متنفّساً لخلق جو مشبع بإرادة الحياة.
تناول الكاتب بعض سلبيّات معشر الأسرى ومنها الأنانيّة وحبّ الذات التي حاولت إدارة السجن تنميتها، التعاون مع إدارة السجن والاستخبارات حيث انحصرت قبل السابع من أكتوبر في الهيئات الإداريّة والتنظيميّة أما بعده فقد تسلّل الضعف إلى بعض النفوس الرخيصة الذين عرضوا خدماتهم مقابل أبخس الأسعار وطمعاً بتحصيل مكاسب شخصيّة تافهة مثل التدخين والسجائر وبالمقابل باعوا ضمائرهم بالإبلاغ عن أماكن إخفاء أجهزة الاتصال الخلويّ وشواحنها وما تبقّى من أجهزة الراديو، وكذلك الأمر إهدار الوقت بلا فائدة.
ملاحظة لا بدّ منها؛ يبدو أنّ الكاتب تغاضى عن الكثير من السلبيّات التي تعاني منها الحركة الأسيرة، ولكن نشرها وفضحها واجب لأن ضوء الشمس هي المطهّر الأقوى ومنها نتعلم وتمنّيت عليه أن يحذو حذو الأسير خليل أبو عرام في كتابه “القديس والخطيئة”، والأسير قتيبة مسلم في كتابه “بقايا زنزانة” ليقرع ناقوس الخطر وجدران الخزان منبّهًا لسوسة الاختراق الأمني داخل السجن وينبّه لتدخّلات إدارة السجن، بواسطة أعوانها، لتقوية طرف على آخر، وزرع الفتنة بين الأسرى وبناء الإقطاعيات داخل السجون وتحويلها إلى قلاع تابعة لأشخاص.
وبالمقابل تناول إيجابيّات في السجن بعد الحرب؛ ومنها التمسّك بالدين، بحسب قوله، وقيام الليل، والانشغال بالقرآن الكريم وتعلّمه، والحوارات والنقاشات الفكريّة العميقة التي أطلقت العنان للبحث والتأمل، والروح المعنويّة العالية (أخذني مجدّدا للقائي الأخير بالأسير أحمد عارضة، من ذوي الأحكام العالية، في سجن الجلبوع، حين ودّعني قائلاً: مروّحين يعني مروّحين).
نعم، كم كان صادقاً الشاعر عبد الرحمن العشماوي حين أنشد قائلاً:
”قد ننحني للريح عند هبوبها لكننا للريح لا ننقادُ”
تناول الكاتب خيار الصبر ودوافع الصمود، من وجهة نظره، ومنها الثقة بالله وتأييده وعدله، الحياة بالأمل، قدرة الانسان على التكيّف مع متغيّرا الواقع، والشعور مع أهل غزة. وختم مع يوم الحريّة والغصّة التي رافقته، أن يترك خلف القضبان رفاق درب يعانون وأشدّ أنواع العذاب ومن ناحية أخرى تصوير مظاهر الوفاء والاستقبال من عائلته القريبة والبعيدة، أهله ومجتمعه برمته. ويُنهي قائلاً: “سلاما لأرواحكم المعلّقة بقناديل النّجوم تناجي ربها بخشوع، سلاماً لأنّات اشتياقكم تناغي صور أطفالكم ترتسم في وميض القمر أو شعاع الشمس، سلاماً عليكم آل الصّبر وأنتم تجتازون المحن... فأنا لستُ هنا إلّا شاهداً نطق عنكم وإنْ كان يظهر من حين إلى آخر بشخصه، واحداً منكم، وظلّاً لكم”.
استعماله للهوامش جاء موفّقاً، وخاصّة للقارئ في العالم العربي البعيد عن السجن ومصطلحاته التي ترافق كلّ طفل فلسطيني منذ ولادته؛ وعلى سبيل المثال “الأبراش” (صفيح حديدي بطابقين ينام عليه الأسرى)، “لبس الشاباص” (ثياب خاصّة بالسجن بُنِيّة اللون)، “الكنتينة” (بقّالة السجن، وكذلك المال الذي يودع في حسابات الأسرى عند إدارة السجن عبر البريد للشراء من تلك البقّالة)، “النحشون” (قوّات نقل الأسرى من سجن لآخر وللأماكن البعيدة).
ملاحظات لا بدّ منها؛ علمتُ بصدور الكتاب من صفحة الصديق وليد الهودلي وحين استفسرت عن الناشر للحصول عليه فوجئت بأنّ الكتاب لا يحمل اسم الناشر و/ أو المطبعة؟ وراودني الشك بأنّه بات من المحظورات لمحتوى الكتاب.
أشدّ على أيادي الدكتور فاروق عاشور (لا أعرفه ولم يكن بيننا تواصل حتى كتابة هذه السطور) وأناشد كلّ أسير وأسيرة من أحرارنا أن يحذو حذوه لتوثيق هذه التجربة المهمة والمفصليّة في تاريخ الحركة الأسيرة.