إن السؤال الاستنكاري عن تقصّد العدو الصهيوني في عملته البغيضة بتبخير جثامين ضحاياه؛ يطرح قضية عميقة تتجاوز الجانب المادي لتصل إلى المعاني الرمزية والنفسيّة الإنسانية.
من الملفت حد الألم أن يتجاوز العدو مسألة الإبادة الجماعية إلى الفناء الجسدي، ألا تكفي آلة الحرب الصهيونية أن ترتكب المجازر؟! يبدو أن الموضوع قد تجاوز الآن الوحشية والرغبة في القتل ليصل إلى حدودٍ أبعد من ذلك بكثير، فعدونا يتفهم جيداً الفرق بين أن يقتل وأن يُبيد وأن يُفنِي، وهو بارعٌ في تحريك مفردات الموت عملياً إلى مراحل أشد دقة وأكثر رمزية. دخلت العقيدة الصهيونية اليوم، باستحداث وتقصّد موضوع (تبخير الجثث)، إلى منحىً تاريخي جديد في منظومة الأفكار الدموية الصهيونية البارعة تماماً في صناعة الموت.
فهي تمتلك قاموساً مليئاً بمصطلحات ظلت تنمو انطلاقاً من النص الديني مروراً بالنص التاريخي ووصولاً إلى النص السياسي المتطرف، ولعلنا نحتاج صراحة إلى تحليل هذه المنظومة الاصطلاحية المزدحمة بمفردات الإقصاء والتهجير والتحييد والإلغاء والإِبْعاد والإِخْلاء والإِفْراغ والتَرْحيل والشَطْب والعَزْل والفَصْل والمَحْو والنَفْي وسلب الأرض وسرقة المحتوى الحضاري والموت القصري الفردي والجماعي، والمجازر والإبادة الجماعية، والآن تصاعدت مفردات هذا القاموس لتصل إلى مصطلح (تبخير الجثث).
إن التفنن في صناعة القنابل الحرارية والفوسفورية المجرَّمة دولياً في استخدامها ضد المدنيين يعد ولا شك “جريمة حرب”، كما جاء في اتفاقيات لاهاي لعامي 1899 و1907. وطبعاً عدونا يظن نفسه فوق القانون الدولي الإنساني، أو هكذا يخيّل له، لذا فهو يسعى إلى ابتكار قنابل غير نووية تعطي فعل القنبلة النووية في أن يتحول الجسد البشري عند درجات حرارة تصل إلى أعلى من 3000 درجة مئوية إلى مجرد (ظل)، نعم مجرد (ظل)، فلا يتبقى مكان الجسد إلا ظل رمادي.
وللعلم أن جيش الكيان الصهيوني لا يمكنه إلقاء قنبلة نووية تقوم بتبخير الأجساد لسبب معروف وهو خطورة الإشعاعات النووية المنبعثة على كيانه المصطنع، إلا في حالة واحدة تسمى في عرفهم الوجودي (خيار شمشون)، لذلك لجأ إلى ابتكار أسلحة حرارية خاصة تبخر الأجساد، في عملية فيزيائية وكيميائية معقدة يمكن الرجوع إليها في المصادر العلمية، وسأفرد لها مقالاً خاصاً بحكم تخصصي في الفيزياء، لكني هنا في هذا المقال أبحث عن الدلالات والقصديات في موضوعة (تبخير الأجساد).
إن فكرة أن العدو الصهيوني يشرع في إنهاء جثامين الضحايا بتبخيرها تماماً، تحمل في طياتها دلالة على الرغبة في القضاء التام على الوجود الفلسطيني، وليس مجرد القضاء على الحياة، بل على العمل على إمحاء أي أثر مادي لهذا الوجود. وهذه صورة رمزية عميقة للتدمير المطلق والانتقام الشديد. التبخر هنا يرمز إلى الفناء التام، حيث يتحول الجسد إلى بخار يتلاشى، كأن هذا الشخص لم يكن موجودًا أصلًا.
وبالتالي قصدية محاولة فناء الوجود الفلسطيني بأكمله. ناهيك على أن عملية تبخير الجسد الفلسطيني تعكس درجة عالية من الكراهية والانتقام، حيث يسعى العدو إلى إلحاق أقصى قدر من الإلغاء يمكن أن يتحصل عليه، وهذا تماماً ما يفهمه العدو الصهيوني من موضوع صراع الوجود، فهو بذلك يتعدى في أن يكون الصراع محصوراً على الاستحواذ على (أرض الميعاد) حسب ما طرحته سابقاً العقيدة الصهيونية، وقد صعّد العدو طريقته في التفسير ليتدرج الصراع من مجرد التهجير (الترانسفير) الذي تُخمت بموضوعه الأدبيات الصهيونية السياسية كافة يميناً ويساراً، وعملت على ممارسته منذ بداية القرن العشرين، إلى (غبائية) الوصول فكرة (تبخير الجسد الفلسطيني)، وبذا يتحول الصراع إلى شكل متطرف من القضاء على الوجود.
من هنا نرى أن عملية (تبخير الجسد الفلسطيني) ماهي إلا سيناريو متقدم ومحكم لإدارة صراع الوجود بشكل وثيق، حيث يمثل القمة التي يمكن لعدوٍ الوصول إليها في الصراع، ولكن كل الأفكار الخلاقة للعدو في إفناء الفلسطيني لا تشير إلا إلى أفعال غبية، فلا يمكن لشعب أن يفنى بأفعالٍ دنيئة مغرقة في السادية، فالفلسطيني غير قابل للفناء ولا هو عنصر مطواع لأي مفردة في قاموس الموت الصهيوني.
إن فكرة تبخير الجسد الفلسطيني هي صورة رمزية قوية تعكس فينا مخاوف شديدة من انحدار البشرية إلى ممارساتٍ تتجاوز حد الإبادة، إلى الفناء، وبقاء هذه العقول المهددة للوجود البشري مفسدة تاريخية، على الأمم أن تعي خطورتها، وترتقي إلى مرحلة مكافحة هذا النوع المتطور من الجرائم الوجودية.