إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها حكايتي، لم يجد أحد جثّتي، حتى أنا شاركت بالبحث عنها مطوّلاً دون جدوى، كلّ ما أذكره أنّنا كنّا وثلّة من الصحب نتسامر ليلاً أمام بيت محمد أبو سلمان المدمر، فإذ بنا نسمع صفير قذيفةٍ مصحوباً بوهجٍ عالٍ اختفيتُ بعدها...
جسدي كان بالنسبة لي كياناً متكاملاً، أجيد قراءته، ربّما كان فرضاً عليّ أن أنظر إلى نفسي في التزامٍ روحي بالآية الكريمة (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)، فأعطيتُ كلّ عضوٍ فيه اهتماماً خاصّاً وتعمّقت في فهم وظائف هذا العضو وقدرته المبهرة في توالفه مع بقية الأعضاء في الجسد الواحد، كيف لا وأنا الذي درستُ علمي التشريح ووظائف الأعضاء على يد أكبر علماء الطب في قطاع غزّة، لكنّ الظروف المادية أجبرتني على ترك الدراسة الجامعية، كنتُ في حوارٍ دائمٍ مع أصدقائي عن قدرة هذا الجسد العجيب، وأتذكّر قبل فنائي بيومين أنّي وصديقي د. خالد كنّا نتحدّث عن معجزة اليد، لقد تناولها ببراعة من منظورٍ فكري باعتباره أستاذاً في الفلسفة، وأنا من الناحية التشريحية، وأعتقد أنّنا اتفقنا على توسيع الحوار عن اليد البشرية وعبقريتها، إلاّ أنّ القذيفة فاجأتني، وكنتُ أرغب على الأقلّ أن يجدوا يدي، لكنّهم لم يجدوا أيّ شيء يسمى أحمد.
كان خبر تبخّر جثّتي صدمةً لأولادي وزوجتي وأهلي، صحيح أنّني متّ لكنّي لم أحظى بمراسم دفنٍ كباقي رجال ونساء وأطفال حي الشجاعية الآخرين، أختي منال فيلسوفة عصرها، قالت:
^ رفعه الله إلى السماء كأنّه المسيح..
انتقدتها أخواتي الغارقات في البكاء..
^ بلا هبل، اسكتي...
وبين ضباب الحزن الذي سيطر على الخيمة التي نصبوها واجتمعوا فيها بعد تدمير بيوتهنّ، تومض عباراتٍ قصيرة، ما تلبث أن تختفي دون أن يعلّق أحدٌ عليها:
^ يا تَرى إنتَ كيف عامل عند ربك بدون جسد ياخويا؟
^ يا حبيبي يا أحمد أكيد حترجع..
وجدت منال فرصة لتدافع عن نفسها:
^ مش قلت لكن مسيح، وحيعود زي المسيح، ويمكن قبله كمان.
وتدافع البكاء.
استمرّت حالة انتظاري، واستطاعت منال شقيقتي أن تقنع بعض أخواتي بأنّي سأرجع، بل أقنعن زوجتي أنّي مجرّد غائب، ولا داعي لإجراءات وطقوس ما بعد الموت، فلا هي ذهبت إلى أهلها أرملة، ولا بقيت في بيتنا زوجة، والكلّ تقريباً أسْكتَ ابني محمود حين أراد أن يتكلّم عن الميراث بأنّ دليل موتي مفقود، لذا فمن الأفضل اعتباري غائباً حتى يأتي دليل بموتي. وكان بودّي لو آتي لأحدهم في المنام وأوصيه بتوزيع بضعة المئات من الدولارات المتبقية في المصرف من مرتباتٍ سابقة، ليستفيدوا ولو ببضعة أغطية وملابس في هذا الجوّ العاصف وهم يعيشون حياةً بائسة جدّاً من تلك الحرب التي بخّرت جسدي إلى الأبد.
كثيراً ما كان صديقي د. خالد يتناقش معي عن فلسفة الاختفاء كلّما اختفى صديق أو قريب لنا في هذه الحرب، وامتدّ بنا الحديث لمساحات كانت تدفع عقولنا برفع مستويات التفكير أعلى فأعلى، وكنا نخشى أن يرى الجنود الصهاينة هذه المستويات وهي ترتفع، بل لنكن أكثر دقّة؛ تراها رداراتهم فيقصفونا، كان القلق الوجودي يسيطر علينا شاعِرِين بفقدان الهوية والمعنى من هذه الحياة. فالاختفاء بالنسبة لنا محاولة للهروب من هذا الفراغ الوجودي. بل ربّما هو صورة من صور الفنّ نجيد تصويره للتساؤل حول طبيعة الوجود والهوية. ويبدو أنّي استعجلتُ في تطبيق فنّ الاختفاء، قبل أن يبلغ الحديث مع صديقي متعته حين نربط أيّ موضوعٍ فلسفي بالنساء.
في الجانب الآخر من العالم كان الحديث عن تبخّر جثّتي مادةً إعلامية شيّقة، تلقّفتها مراصد حقوق الإنسان في الإعلان عن أنّ دولة الكيان الصهيوني تستخدم أسلحة محرّمة، وحين وصل إلى روحي السامعة هذا الخبر صدّقوني تخيّلت أنّ لي جسداً يقع الآن من كثرة الضحك، فالموت واحدٌ؛ بجثّة أو بدون جثّة، ما الفرق في أن تموت جوعاً أو بقنبلة وزنها 1000 طن، أو أن تموت برصاصة أو بصاروخٍ نووي، إنّه موتٌ وكفى، ما الفائدة من هذا الاحتجاج، ها أنا الآن بلا جسد مثلي مثل من ترك جسده على الأرض، الفرق في حجم القلق البشري الذي يصيب الناس، فالاختفاء يثير قلقاً أقوى بكثير من قلق رؤية الجثّة.
ازداد اليقين بين أخواتي على أنّي ارتقيت بجسدي، وازداد يقينهم بعودتي قبل عودة المسيح، لكنهنّ كنّ يدعَوْن الله أن أنزل من السماء في حياتهنّ، ويتبركن بي، لكن كيف أفهمهنّ أنّ المجيء يحتاج إلى جسد، وأنا لا جسد لي، لن أخبرهنّ، لأنّي بكلّ بساطة سأضيّع منهنّ فكرة العودة المقرونة بالخلاص، فقد ازداد اليقين عندهنّ – وخاصّة منال - بأنّي لو عدت؛ ربّما سيكون ذلك إشعاراً بتحرير فلسطين، آهٍ لو كان لي جسد، لعدتُ فعلاً معلناً الخلاص من هذا العدوّ، ولكن لا جسد لي الآن لأدخل به القدس منتصراً.