نحن نحترق، آخر أعمال الفنّانة الفلسطينية محاسن الخطيب قبل استشهادها في مجزرة جباليا يوم 19/10/2024، أنا محاسن من غزّة، صامدة في الشمال، أنا الشابة الصغيرة، خلال السنوات الماضية نقلت جحيم غزّة خلال الحرب بالرسوم والأعمال الفنية، أحاول البقاء على قيد الحياة.
نحن نحترق، وثيقة فنية لشاب فلسطيني التهمته النيران يوم 14/10/2024، وهو شعبان الدلو 20 عاما والذي استشهد حرقا بجانب والدته آلاء وشقيقه الأصغر عبد الرحمن، عندما تعرضت خيام النازحين داخل مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح إلى قصف صاروخي، كرات من النار هبطت فوق رؤوس الناس، رفع شعبان يديه وخاض غمار النار لإنقاذ والدته وشقيقه، رصدت محاسن الخطيب يدا تمتدّ من وسط الجحيم لشخص يلتحف بالنيران، يتلوّى من الألم، يطلب النجدة وهو يحترق في خيمة العائلة.
سمعت محاسن صوت شعبان المحترق، يحاول الهروب من النار، غزّة تشتعل، فقرّرت أن تتصدّى للموت بلوحة فنية، كتبت تحتها: قل لي ما هو شعورك عندما ترى أحدا يحترق؟ ولم تكن تدري أنّها بعد أيام سوف تحترق هي الأخرى مع اللوحة والريشة عندما استهدف الاحتلال مربعا سكنيا في جباليا، حيث أصيب أفراد عائلتها بينما هي استشهدت مع 33 شخصا آخرين في هذه المذبحة.
دخلت محاسن اللوحة وصاغت الوصية: أريد أن أخبر العالم قصّة غزّة وسكانها بدون كلمات، الفنّ هو وسيلة التواصل مع العالم والحفاظ على العقل وسط الكارثة التي تتعرّض لها غزّة، (شفنا الناس بتولع، شفنا الناس محدش قادر يساعد، شفنا الناس بتموت قدام عينينا، الرحمة من الله علينا)، تركت لكم صورتي فعندما أموت لن تضطرّوا للبحث عن صورتي، فاختاروا أيّ صورة تريدون، صورتي المدفونة تحت ركام بيتي أم صورتي المحترقة في المشهد العام، لعلّ طريقتنا في الموت، في غزّة هي التعبير الوحيد المتاح لكسر الصّمت في هذا العالم العاجز والمنهار. اللوحة هي الذاكرة التي تتذكّر، لا تقايض حتى لو هجم وحش الموت، فالفنّان صانع الحضور الكثيف في ظلّ سياسة التطهير للناس والمكان، وكأنّ هذه اللوحة تقول للجميع: كان بالإمكان إنقاذ الكثيرين لو كانت هناك إرادة أو رسالة أو يد تقتحم النيران أو سبب للحياة. نحن نحترق، عنوان لوحة فنية للشهيدة محاسن الخطيب، فلماذا لم تتوقّف هذه الإبادة الدموية بعدما انتشرت اللوحة في كلّ العالم؟
فالحرب الأمريكية على فيتنام وحرق الناس بقنابل النابالم وقاذفات اللهب قد توقّفت بسبب صورة التقطها مصوّر وكالة اسوشيتد برس (نيك اوت) للطفلة كيم فوك وهي تركض تائهة وعارية ومحروقة بالكامل بعد غارة أمريكية بالنابالم على بلدة ترانغ بانغ الفيتنامية، وبعد أن تقمّص الصهاينة دور الضحية بعد محرقة الهولوكوست واستعطفوا العالم أصبح لهم دولة فوق أرضنا وعلى حساب حياتنا ومصيرنا، وعندها توقّفت الحرب العالمية الثانية، لم يكن للهولوكست لوحات ولا صور.
لكن هولوكست غزّة يبث بالصوت والصورة وعبر الهواء مباشرة يوميا وفي كلّ دقيقة وفي كلّ ساعة، أفران الغاز والحرائق في غزّة تعرض على كلّ القنوات الفضائية، الاعتقالات والإعدامات والتعذيب والإهانات والممارسات السادية والشاذّة يراها كلّ العالم، المجازر الجماعية، الجثث في الطرقات، النزوح والجوع وتدمير المنازل وانتشار الأمراض الفتاكة، لكنّ محاسن الخطيب تقول: سنكتب غزّة، نحن المظلومين، ولن يكتب الرواية الأقوياء والطغاة فقط.
حارسة النار محاسن الخطيب استشهدت مع أكثر من 50 فنّانا وكاتبا وشاعرا وروائيا قتلوا في غزّة، تبعثرت كتاباتهم بين الجثث وتحت ألسنة النيران، بعضهم تحوّل إلى صرخة أو لوحة، وبعضهم لازال يحرّك أصابعه تحت التراب ويكتب، لكن شعبان الدلو لازال يمدّ يده، يمسكنا من أعناقنا، يهزّ فينا كلّ هذه البلادة والدهشة، يكتب وصيته الأخيرة، فتحوّلها محاسن إلى نصّ يصير هو الواقع، بعد أن عجز شعبان عن تلاوة الوصية، فلا نملك إلا دمنا ومن حقّنا أن نحوّله إلى حرية الصراخ في كابوس الانفجار.
الأعمال الفنية الرقمية التي قدّمتها الشهيدة محاسن الخطيب أصبحت الناطقة باسم جروحنا وآلامنا وخيبتنا، مزجت واقع الإبادة البشعة والمستمرّة بخيال الفنّ والمقاومة وبريشة انتزعتها من اللحم والعظم، وهنا الفرق بين الفنّان وكهنة القتل والأسلحة، الفنّان يرسم قوس قزح ويزرع وردة في الرماد، بينما كهنة الأسلحة يزرعون القنابل في الطبيعة والجمال.
الحريق يملأ لوحة الفنّانة محاسن الخطيب، لم يصل رجال الأطفاء ولا الدفاع المدني ولا الأمم المتحدة، صمت الجميع واحترقوا جسدا وإدراكا وثقافة، ( فش كلام بالمرة، أحنا بشر يا عالم) هذه صرخة سيدة فلسطينية من غزّة أجبرها الاحتلال على النزوح من منزلها، وجدت نفسها وحيدة في الطريق الطويل المرصوف بالموت والجثث، هل قرأت ما كتبته تلك الطفلة على ذراعها قبل استشهادها في شمال غزّة ( نور حب ماما وبابا)، أنت ترى وتقرأ وتسمع، ولكنّك غير قادر على تحريك يدك لترسم أو تطفئ النار المشتعلة في داخلك.
(حرقوهم حرق يما )، صوت سيدة غزّية تفجع بارتقاء ابنها وزوجته وأحفادها في قصف الاحتلال خيمة نازحين بالزوايدة وسط قطاع غزّة، فماذا يفعل السياسي عندما يحترق الناس وهو يفتش عن جملة تستقرّ على أرض أو خيمة أو دولة ؟، وماذا يفعل المثقّف عندما يكتب سردا طويلا ومؤثرا لا يرتقي إلى مستوى كلام المذبحة؟
نحن نحترق، خيام النازحين تحترق في شمال قطاع غزّة، هي لوحة حوّلت الألوان إلى كلام ونداء، عندما صارت الفاجعة هي الصمت، ربّما هذه اللوحة تنشر الشظايا والأشلاء على الليل ليضيء الليل وتصحو النفوس الميتة، وأصبحت اللوحة هي المدينة والقرية والمخيم والبيت والقشعريرة. قل لي ما هو شعورك عندما ترى أحدا يحترق؟
وكيف تملأ الفراغ الإنساني بعد شطب آلاف العائلات من السجل المدني، الجميع في السماء أو تحت الأنقاض، لعلّ اللوحة الفنية الحية التي ظهرت في جحيم الإبادة وتطلّ علينا بدموعها ودمائها قد تنمو في العقل والإدراك والذاكرة، ولعلّها تصير شجرة أو درسا في مدرسة ابتدائية، ولعلّها تصبح شمسا استثنائية في هذا الظلام الدامس، صيفنا لا يشبه أيّ صيف، وشتاؤنا لا يشبه أيّ شتاء، وموتنا لا يشبه أيّ موت، سيبدأ تقويمنا بعام غزّة، لا الميلادي ولا الهجري، ننتظر نبيا آخر سيولد في عام جديد ومختلف.
اقرأوا لوحة (نحن نحترق) ادخلوا اللوحة، سوف تسمعون أصواتكم وعذاباتكم، اللوحة هي الناطقة باسم وطن يبحث عن الحرية والخلاص، شعب يقاوم بأدوات الحلم ويهزم موت الفنون كما قال محمود درويش، يلتحم حول أطراف أجساده المتطايرة، يخرج من الإطار وينطلق متحرّرا من طوق الحريق والسجن، فاللوحة فيها طاقة شعب قادر أن يترجم غزّة إلى حقل ملموس ليأتلف الخطاب مع ظلاله المحروقة.
قل لي ما هو شعورك عندما ترى أحدا يحترق؟ وما عليك سوى أن تصغي إلى صوت اللوحة، تلك الأم تصرخ: الأولاد ماتوا بدون ما يأكلوا، وذلك الصحفي يكتب لن نرحل، سنخرج من غزّة إلى السماء وإلى السماء فقط، وسترى في قلب اللوحة جدّا يحتضن حفيدته الشهيدة وهو يقول: ريم روح الروح، بينما تلك الطفلة التي تعرّفت على جثة والدتها تصرخ: هاي أمي بعرفها من شعرها، وفي اللوحة صورة الطفلة الجميلة سيدرا يلتصق ما بقي من جسدها بأحد الجدران بعد قصف عنيف قتل فيه جميع أفراد عائلتها، وسترى في اللوحة الآباء والأمهات يكتبون أسماء أطفالهم على أطراف أجسادهم الغضّة حتى إذا استشهدوا وتناثرت أشلاؤهم هنا وهناك يجمعونها في كفن واحد مع أجزاء أخرى من أطراف أجساد تحمل التوقيع الحزين نفسه، وتسمع اللوحة تقول: ننام معا كي نموت معا، وستحسب أنّ الطفلة هند التي تبدو في خلفية اللوحة نائمة، لكنّها ميتة بعد أن توقّف قلبها عن النبض من شدّة القصف الصهيوني.
نحن نحترق، لوحة متحرّكة في الشوارع والطرقات والخراب في غزّة، ترى الطفلة قمر 7 سنوات تحمل شقيقتها سامية 4 سنوات وهي تسير حافية القدمين تبحث عن مكان آمن، وترى جثة طفلة محروقة معلقة على جدار البيت بعد إبادة 125 فردا من عائلة أبو النصر في شمال غزّة، ولغزّة لغة مصفحة، لها معجمها الخاص، وإلا كيف تنطق الألسنة بما حدث مع الشاب المعاق محمد بهار المصاب بمرض التوحّد؟ عندما افترسته الكلاب حتى الموت، موسيقى النار والجريمة تسمعها في اللوحة، هذا الأب يصرخ مرتجفا: (هذا صندل بنتي وين بنتي؟).
ولن ترى غزّة في اللوحة إلا بلون الرماد أصوات تتداخل في قلب المجازر: مين ظلّ عايش، أمانة ترجعي يما، يا عالم اولادي ثلاثة دوروا بلقي لاقيتوا واحد عايش، تعالوا في المنام والله بشتقلكم، أرجوك يا دكتور بدي امي تكون عايشة، وتختلط اللوحة بين من مات ومن نجا، والكلّ ينتظر الموت، يبحثون عن لون ليرسموا الحياة الأخرى، وتركوا في قلبونا شكل الحياة القادمة، فهل يستيقظ شعورك في لهيب اللوحة؟ أم اكتفيت بالمشاهدة والحسرة والنوم في تلافيف الكوابيس المضطربة.
نحن نحترق ولا وقت للاستراحة، وبعد أكثر من 400 يوم من المحرقة، وارتقاء أكثر من 50.000 شهيد وآلاف المفقودين وارتكاب أكثر من 3000 مجزرة، وانتشار المقابر الجماعية في كلّ مكان وحتى داخل المستشفيات، واعتقال أكثر من 11.000 أسير وأسيرة، وأكثر من 209 من الأطفال الرضع ولدوا واستشهدوا في حرب الإبادة الجماعية، وغالبية الشهداء من الأطفال والنساء، ونحن على أبواب عيد الميلاد المجيد، لا يوجد أطفال يحملون الهدايا ويرسمون أحلامهم تحت شجرة الميلاد، الأطفال احترقوا ولا يوجد سوى الدخان والخوف والصدى، قمر يتدلّى مصلوبا ينتشل طفلا قتل اليوم ويحيا غدا.
تقول لوحة نحن نحترق: أيّها الهادئون البعيدون القريبون اللاّمبالون، أيّها المتحالفون علينا من الشرق ومن الغرب ومن الداخل فينا، هذه ليس حرباً على غزّة وإنّما حرباً على حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وعندما يحترق الناس في غزّة ويمحون عن الخريطة لن ينجو أحد في القدس أو رام الله، الفاشية الصهيونية لا حدود لها، الجميع سيحترق، الجميع في اللوحة الملتهبة، فهل يتحرك فينا عضو ونخرج من التجمّد والبلاهة ونفعل شيئاً؟ قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: “لو أوشكت القيامة أن تقوم وبيدك فسيلة فاغرسها”.