الدكتور بن أشنهو: الفيروسات موجودة قبل البشرية ولديها خصوصيات
- تقوية جهاز المناعة مرتبط بالنمط الغذائي الصحي والنوم
- ضرورة الاعتماد على الطب الوقائي والتقدم العلمي
- تكوين مختصين في الفيروس والأمن الصحي ضرورة
عرفت البشرية عبر قرون مضت ظهور أوبئة أودت بحياة الملايين من البشر، بداية بالطاعون الأنطواني الذي أصاب الأباطرة، إلى الطاعون الأسود ثم الكوليرا، والأنفلونزا الإسبانية والسارس والإيبولا وصولا إلى أشرس فيروس تنفسي وهو كوفيد-19 والذي أعقبه أخطر وأسرع فيروس نتشاراً وهو المتحور الهندي «دلتا» و»ألفا» البريطاني و»بيطا» الجنوب إفريقي.
بحسب الخبراء، فإن العالم سيشهد فيروسات أخرى ولابد أن نتجنّد لمواجهتها والتعايش معها.
الطاعون
في سنة 165 ميلادي ظهر لأول مرة الطاعون الأنطوني، أو كما يعرف بطاعون الأباطرة الأنطونيين. وشهد «غالين» وهو طبيب يوناني، تفشي المرض وسجل أعراضه المتمثلة في الإسهال الأسود، الذي يشير إلى نزيف الجهاز الهضمي، والسعال المكثف، والنفس ذي الرائحة الكريهة، وطفح جلدي أحمر وأسود في جميع أنحاء الجسم.
وتسبب المرض في وفاة ما يصل إلى ثلث السكان في بعض المناطق، حيث قُدر إجمالي عدد الوفيات بنحو 5 ملايين شخص، ما تسبب في تدمير الجيش الروماني، واستمر هذا الطاعون حتى عام 180 ميلادي تقريبا. وأشار المؤرخون إلى أن الإمبراطور ماركوس أوريليوس كان أحد ضحاياه.
وعلى الرغم من أن أعراضه شبيهة بنزلة البرد العادية، مثل سيلان الأنف والصداع والحمى والتهاب الحلق، لكن هذا الفيروس في الواقع أكثر فتكا من نزلات البرد.
يليه الطاعون الأسود وعرف بأسماء مختلفة مثل أثينا وأنتونينوس وقبرص وجوستينيانوس الذي ظهر بين سنوات 1346 و1353م، في أوروبا وإفريقيا وآسيا، وتسبب في وفاة ما بين 75 مليونا و200 مليون شخص، ويعتقد أن هذا الوباء نشأ في آسيا، وانتشر على الأرجح عن طريق البراغيث التي كانت في الفئران التي تعيش على متن السفن التجارية.
وبعد ثلاثة قرون أي بين عامي 1647 و1652، اجتاح الطاعون أشبيلية وقضى على نحو 76.000 شخص أي حوالي ربع سكان الأندلس في ذلك الوقت، كما مس الطاعون لندن بين عامي 1665- 1666، حيث قتل 20% من سكان المدينة، وما زال الطاعون الذي تسببه إحدى البكتيريات، يقتل ما بين 100-200 شخص في السنة في أيامنا هذه.
الكوليرا
وتسبب وباء الكوليرا الذي انتشر في آسيا وأوروبا في الفترة بين 1817-1824 في وفاة عشرات الآلاف من الناس، وكانت أكبر حالات تفشي الكوليرا في اليابان عام 1817، وفي موسكو عام 1826 وفي برلين وباريس ولندن عام 1831، ولا تزال الكوليرا تصيب الكثير من الناس اليوم، حيث تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن أعداد المصابين به يتراوح ما بين 1.3 و4 ملايين حالة سنويا .
أنواع الأنفلونزا
وتعتبر الأنفلونزا الإسبانية الوباء الأسوأ في التاريخ الحديث والتي تفشت بين عامي 1918-1920، حيث تسبب فيروس H1N1 في وفاة ما يتراوح بين 50 و100 مليون شخص في 18 شهراً فقط، وقُدر عدد الإصابات بحوالي 500 مليون إصابة بالفيروس الذي تفاقم انتشاره. وعلى عكس فيروسات الأنفلونزا الأخرى التي تصيب كبار السن والأطفال بشكل رئيسي، أصاب وباء الإنفلونزا الإسبانية الشباب والبالغين دون أن يحدث مشاكل في الجهاز المناعي.
في عام 1956 ظهرت الإنفلونزا الآسيوية وهي بمثابة تفشي وبائي لفيروسات الإنفلونزا من النوع الفرعي H2N2 الذي نشأ في الصين واستمر حتى عام 1958، وفي الأشهر القليلة الأولى، انتشر في جميع أنحاء الصين ومناطقها، ولكنه بحلول فصل الصيف، وصل إلى الولايات المتحدة، حيث أصاب في البداية قلة قليلة نسبيا من السكان، وتختلف تقديرات عدد القتلى، لكن منظمة الصحة العالمية تقدر الحصيلة النهائية بنحو مليونين و69800 شخص، في الولايات المتحدة وحدها، ناهيك عن باقي الدول الآسيوية والأوروبية.
ظهر فيروس إنفلونزا الطيور «إتش5 إن1»، للمرة الأولى سنة 1997 لكنه انتشر من جديد في 2003، حيث أدى إلى وفاة ما يقارب 400 شخص حول العالم، فضلا عن وفاة ملايين الدواجن، فهو مرض فيروسي معد يصيب الطيور (لا سيما الطيور المائية البرية مثل البط والإوز) ولا يتسبب في غالب الأحيان في ظهور أية علامات مرضية، وشكلت الدواجن المصابة تهديدا كبيرا في آسيا بسبب انعدام شروط النظافة وقرب أماكن تربية الدواجن من الأحياء السكنية.
في المقابل، انتشرت إنفلونزا الخنازير «إتش1 إن1» (H1N1) للمرة الأولى عام 2009 بالمكسيك، حيث عانى عدد كبير من السكان من مشاكل حادة في التنفس لم يعرف في البداية مصدرها، ثم انتقلت العدوى إلى دول أخرى، لاسيما الآسيوية منها حيث يكثر فيها تناول لحوم الخنازير.
هذا الوباء هو مرض معد ينتشر عبر التنفس، وينتقل عند الخنازير بسبب انتشار الصنف «أ» من فيروس «إنفلونزا»، ووفق منظمة الصحة العالمية، يعد هذا الوباء من بين أخطر الفيروسات، لأنه يملك قدرة كبيرة على التحول ومقاومة المضادات التي يتناولها المصابون، كما يقوم هذا الفيروس بتحوير نفسه كل ثلاث سنوات الأمر الذي يجعل المضادات الحيوية والأدوية المقاومة له تفقد فاعليتها.
وتشير التقديرات إلى وفاة أكثر من 250 ألف شخص عبر العالم جراء هذا الفيروس، فيما وصل عدد الوفيات العرب في جانفي 2010 إلى حوالي ألف شخص ينتمون إلى 22 دولة.
متلازمة «سارس»
وظهر بالصين فيروس متلازمة تنفسية عرف باسم السارس في 2002 ثم انتقلت عدواه إلى دول جنوب شرقي آسيا، كتايلاند وكمبوديا في 2003، ويعتبر «سارس» من الأوبئة الفتاكة للإنسان، إذ تسبب في مقتل 800 شخص من أصل 8000 مصاب، ويصاب ضحاياه بصعوبة التنفس والتهاب حاد في الرئة.
دقت منظمة الصحة العالمية ناقوس الخطر في مارس 2003 ورصدت الدعم المالي واللوجستي اللازمين من قبل العديد من الدول للسيطرة عليه، فقامت هذه السلطات الصحية بعزل المصابين ووضعهم في حجر صحي لغاية شفائهم، فيما أثبتت التحاليل بعد ذلك أن الخفاش كان مصدرا لهذا الوباء.
الإيبولا
عاد وباء الإيبولا للمرة الأولى عام 2013 بغينيا في أفريقيا، وانتشر بشكل سريع في الدول المجاورة لهذا البلد، كسيراليون وليبيريا، وكانت منظمة «أطباء بلا حدود» من بين المنظمات الأولى التي دقت ناقوس الخطر، فدعت منظمة الصحة العالمية إلى إعلان حالة الطوارئ وتوفير كل الإمكانيات الطبية لمنع انتشار هذا الوباء الذي تسبب في مقتل ما يقارب 6000 شخص، غالبيتهم في أفريقيا، حيث أضعف بشكل كبير اقتصادات بعض دول هذه القارة.
ينتمي فيروس الإيبولا لعائلة «الفيروسات الخيطية»، وأطلق عليه هذا الاسم لأنه يظهر على شكل خيط تحت الميكروسكوب، ويعد إيبولا من أشد الفيروسات فتكا بحياة الإنسان ويصنف على أنه عامل بيولوجي ممرض من الدرجة الرابعة.
وفي وقت اعتقد العالم أنه هزم فيروس الإيبولا، عاد هذا الأخير ليظهر من جديد في 2018 في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ورغم التدخل السريع للمنظمات الطبية والصحة العالمية، إلا أنه تسبب في مقتل 2000 شخص حسب السلطات الصحية لهذا البلد.
وباء زيكا
في عام 2015 انتشر وباء «زيكا» بالبرازيل، حيث مس أكثر من 1.5 مليون شخص قبل أن ينتقل إلى دول أمريكا الجنوبية والوسطى الأخرى، ورغم أن منظمة الصحة العالمية لا تصفه بالمرض الفتاك مثل الفيروسات التي تحدثنا عنها أعلاه، فهو يهاجم بالدرجة الأولى الأطفال حديثي الولادة، ويعود تاريخ اكتشافه للمرة الأولى إلى 1947 لدى قرد في غابة «زيكا» بأوغندا، وينتقل هذا الفيروس من شخص إلى آخر بلسعة «البعوضة الزاعجة».
كوفيد-19
لعل أشرس فيروس تنفسي عرفته البشرية نهاية 2019 بمدينة ووهان الصينية هو كوفيد-19 أو كورونا التاجي، الذي اتسعت رقعته الجغرافية عبر العالم لسرعة انتشاره، حيث أودى بحياة الملايين من الأشخاص، وكانت انعكاساته وخيمة على الإقتصاد العالمي، فعطلت مصانع وإدارات، ومحلات تجارية وفنادق، وما زاد في انتشار هذا الوباء هو تهاون المواطنين في التقيد بالإجراءات الصحية.
وبنهاية سنة 2020، ظهرت سلالة جديدة من كورونا ببريطانيا أشد عدوى من كوفيد-19 وأثارت السلالة الجديدة ذعرا عالميا، لأنه أكثر قابلية للانتقال، وأدت إلى عزل بريطانيا عن العالم، بعدما أغلقت عشرات الدول الرحلات والمجال الجوي أمام الرحلات البريطانية، وحذّر علماء في دراسة نشرتها كلية لندن للصحة وطب المناطق المدارية، من أن السلالة الجديدة من فيروس كورونا المستجد التي تنتشر في بريطانيا هي بمعدل وسطي معدية بنسبة 56 بالمائة أكثر من النسخة الأولى، مشددين على توزيع اللقاح بشكل سريع للمساعدة على منع حدوث المزيد من الوفيات.
سلالة الرعب القاتل «دلتا»
بعدما ظن العالم أن كوفيد-19 سينتهي، تظهر سلالة أخرى أخطر وأشرس من كورونا الأصلي وهي السلالة الهندية أو «دلتا» والمعروفة أيضا باسم B.1.617.2، حيث أظهرت بيانات جديدة في الولايات المتحدة أن متحور «دلتا» من فيروس كورونا ينتشر بسرعة أكبر مما كان معروفا من السابق، وصارت لديه القدرة على إصابة المطعمين باللقاح.
وقالت البيانات التي جمعتها مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، إن متحور «دلتا» يمكن أن يؤدي إلى حدوث إصابات خطيرة بالأشخاص الذين لم يتلقوا اللقاح، بدرجة تفوق كافة المتحورات المعروفة، مثل «ألفا» و»بيتا»، بحسب ما أوردته صحيفة واشنطن.
وذكرت تقارير طبية سابقة أن قابلية انتقال «دلتا» تزيد بنسبة بنحو 40- 60 بالمائة عن السلالة الأصلية لكورونا، كما أنها تصنع نسخا من نفسها بسرعة أكبر وفترة حضانة أقصر من السلالات السابقة، وصُنّف المتحوّر على أنه «متحور مزدوج» من قبل وزارة الصحة الهندية، لأنه يحمل طفرتين: L452R وE484Q.
ويمكن للمصاب بالمتحور دلتا الذي اكتشف لأول مرة في الهند في ديسمبر 2020، أن ينقل العدوى إلى عدد أكبر من الناس ما لم نوقفها عبر الاستمرار في تطبيق تدابير تقلل من انتقاله، كالتباعد الاجتماعي ووضع الكمامة وغسل اليدين، وتكرّر المنظمة منذ أشهر التأكيد على أن الوسيلة الفضلى لمكافحة الوباء هي توزيع اللقاحات بشكل عاجل في أنحاء العالم.
ويشير الدكتور أنتوني فاوتشي، كبير أخصائيي الأمراض المعدية في الولايات المتحدة في حديث لقناة NBC التلفزيونية الأمريكية، إلى أن سلالة «دلتا» معدية أكثر من غيرها، لسهولة وسرعة انتقال الفيروس من شخص إلى آخر.
غياب تربية صحية وقائية
يؤكد الدكتور فتحي بن أشنهو في حديث لـ «الشعب ويكاند»، أن الفيروسات موجودة قبل البشرية ولديها خصوصيات، حيث تتواجد في الطبيعة الآلاف من الفيروسات منها ما يسبب بعض حالات السرطان مثل سرطان الحلق. ويوضح أن مهمة الفيروس تحطيم جهاز المناعة، هذا الأخير مرتبط ارتباطا وثيقا بنمط الحياة والغذاء الصحي. ويشير إلى أن الجهاز المناعي للجزائريين منخفض بسبب كثرة التدخين مع التدهور اليومي للنمط الغذائي وتلوث المحيط بسبب دخان السيارات والمصانع وكلها عوامل مساعدة على إضعاف جهاز المناعة.
وفي هذا الصدد ينصح الدكتور بأهمية النوم بالقدر الكافي وتناول الفواكه والخضر الغنية بالفيتامينات عوض تناول المكملات الغذائية، وكذا التقليل من التدخين لأنها تزيد من مناعة الجسم وتقويه، خاصة وأن الفيروس يتنقل هوائيا مما يسبب ضررا بجهاز التنفس.
ويتأسف محدثنا عن نقص تخصص دراسة الفيروسات بكلية الطب، حيث كانت الجزائر تملك في الماضي مختصين في اكتشاف الأمراض الفيروسية مثل فيروس الحمى الباردة (الملاريا) الذي اكتشف بقسنطينة وهو ما يعد مفخرة لبلادنا، ويوضح أنه من بين خصوصيات أي فيروس هو التحول وتغيير شكله أو قوته، فهو لا يحتاج إلى جواز السفر أو تصريح من أي سلطة في العالم، ومهمته الأساسية هو إضعاف جهاز المناعة مثل فيروس السيدا.
ويبدي الطبيب تخوفه من السلالات الجديدة للفيروس التي ظهرت مؤخرا ببريطانيا، والمكسيك، وجنوب إفريقيا وأخرى بدأت تظهر بالهند، في حالة عدم الاستعداد لمواجهتها، ويدعو إلى مواصلة إغلاق الحدود والالتزام بالحجر الصحي، وكذا عدم التهاون في احترام التدابير الصحية بارتداء الكمامة والتباعد الاجتماعي والتعقيم، وبالنسبة له فإن الأهم هو كيف نحمي أنفسنا من الفيروسات بالتلقيح لأن المضادات الحيوية ليس لها تأثير على الفيروس.
ويقول: «أنا متخوف من الصمت المخيم على الفيروسات المتحورة التي ظهرت بعدة بلدان، يجب اتخاذ إجراءات صارمة وتقوية التربية الصحية والمعلومات البسيطة لتوعية المواطنين حول تغيرات الفيروس»، ويضيف أن التركيز على انخفاض حالات الإصابة أدى إلى تهاون المواطن في التقيد بالبروتوكول الصحي.
ويعيب محدثنا غياب تربية صحية وقائية لدى المواطنين الجزائريين، ما جعلهم لا يصدقون في البداية وجود جائحة كوفيد-19، وارتسم في أذهانهم أنه وحش صنع في المخابر الأجنبية، وذلك بسبب جهلهم وعدم حصولهم على معلومات كافية حول هذا الفيروس ما ترك الإشاعة تنتشر وسطهم، قائلا: «يجب أن نكون واعين بظهور فيروسات أخرى مستقبلا، المهم أن نهيئ مؤسساتنا ونبلغ المواطنين لأننا في حرب، كفى من الطب العلاجي، علينا الاعتماد على الطب الوقائي والتقدم العلمي».
غير أنه لم ينف توفر بلادنا على نظام صحي جيد وعدة هياكل صحية جوارية، لكن الإشكالية تبقى دائما في التطبيق وتغيير الممارسات في الميدان.
في المقابل ذكّر بن أشنهو بالمشروع المهم الذي أنشأته الجزائر في الثمانينيات بالشراقة، وهو «معهد باستور الجزائر الجديد»، الذي جهز بمعدات طبية لتصنيع اللقاحات وتصديرها لإفريقيا، لكنه توقف عن الإنتاج لأسباب مجهولة، داعيا إلى تفعيله مرة أخرى ليكون مكسبا للجزائر يمكن أن يجعلها من بين المصدرين للقاحات بدل استيرادها، ويشير إلى ضرورة الاستعانة بأطبائنا في الخارج في هذا المجال.
ويرى محدثنا أنه يجب على وزارة الصناعة الصيدلانية التركيز على المواد المرتبطة بالأمن الصحي، والتفطن لإنتاج اللقاحات بمخابرنا مثلما ما هو معمول به في روسيا، لأن الفيروسات والأوبئة قادرة على تحطيم الأمم.