نجحت الجزائر، خلال السنوات الأخيرة، في تحقيق قفزة نوعية في مجال الأمن المائي، بعد أن أصبحت أكبر دولة في إفريقيا من حيث إنتاج المياه المحلاة من البحر. ويعود هذا الإنجاز إلى برنامج وطني طموح أطلقه رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، يقوم على إنجاز محطات تحلية بمواصفات حديثة وعلى امتداد الشريط الساحلي، حيث دخلت أغلب هذه المنشآت الخدمة الفعلية، وأسهمت بشكل مباشر في تحسين منظومة التزود بالمياه، خاصة في فصل الصيف الذي لطالما ارتبط في السابق بالأزمات والانقطاعات المتكررة.
وقد مثّل دخول محطة تحلية مياه البحر بكدية الدراوش في ولاية الطارف، بكامل طاقتها الإنتاجية، مرحلة فاصلة في مسار هذا البرنامج، حيث توفر هذه المنشأة ما يعادل 300 ألف متر مكعب يوميًا، أي ما يكفي لتغطية احتياجات ما يفوق ثلاثة ملايين مواطن، وهو رقم يعادل عدد سكان دول كاملة. هذا الإنجاز لم يكن ليتحقق لولا التوجيه المباشر من رئيس الجمهورية بتسريع وتيرة الأشغال، وإسنادها لكفاءات جزائرية بنسبة مائة بالمائة، الأمر الذي منح المشروع بعدًا سياديًا يعكس استقلالية القرار الوطني في واحدة من أكثر الملفات حساسية واستراتيجية.
في سياق متصل، تشير المعطيات الميدانية خلال صيف 2025، إلى مؤشرات إيجابية تؤكد فعالية هذه المشاريع. فرغم أن البلاد تمر بفترة الذروة في استهلاك المياه بسبب الارتفاع الكبير في درجات الحرارة، إلا أن التزود بالمياه عبر مختلف الولايات يشهد استقرارًا ملحوظًا. والعديد من البلديات، التي كانت تسجل تذبذبات مزمنة في التوزيع خلال فصل الصيف، تعرف اليوم انتظامًا في الخدمة، مع تسجيل حالات محدودة تبقى ضمن المعقول، وتتم معالجتها بشكل سريع من طرف مصالح التوزيع. هذا الواقع الجديد يعكس بوضوح نتائج السياسة المائية المعتمدة، والتي حولت التحلية من خيار استثنائي إلى دعامة أساسية في تلبية الطلب الوطني.
في نفس السياق، تُشير المعطيات الرسمية إلى أن الجزائر رفعت قدرتها الوطنية من المياه المحلاة إلى نحو 3.7 مليون متر مكعب يوميًا مع نهاية 2024، وهو ما يمثل 42% من حاجيات البلاد من مياه الشرب.
وتم تحقيق ذلك من خلال خمس محطات كبرى، تم إنجازها في ظرف لم يتجاوز 26 شهرًا، وهي: محطة كاب جنات في بومرداس، محطة فوكة في تيبازة، محطة كاب بلان في وهران، محطة تيغرمط- توجة في بجاية، إضافة إلى محطة كدية الدراوش في الطارف. ومن المنتظر أن ترتفع الطاقة الإجمالية للإنتاج إلى 5.8 مليون متر مكعب يوميًا في أفق 2030، بعد استكمال محطات إضافية في ولايات سكيكدة، جيجل، تلمسان، وتيزي وزو وغيرها، ما سيمكن من تغطية ما يقارب 60% من الطلب الوطني على مياه الشرب.
علاوة على ذلك، يُشكل هذا المسار جزءًا من مقاربة شاملة لتعزيز الأمن المائي، لا تقتصر على التحلية فقط، بل تشمل أيضًا الاستغلال الأمثل للسدود، وتحسين إدارة الموارد الجوفية، خاصة في الجنوب الجزائري، بما يراعي التوازن البيئي ويمنع الاستنزاف العشوائي. كما رافق هذا المجهود التقني والإداري إصلاحات على مستوى التسيير المحلي، ومراجعة أنظمة التوزيع، لضمان العدالة في الوصول إلى الماء بين مختلف الجهات، وهو ما بدأ يُترجم فعليًا في استقرار نسبي في التزود بالماء، رغم الظروف المناخية القاسية التي عرفتها البلاد السنوات الأخيرة.
اللافت كذلك، أن هذا التحول الجذري في السياسة المائية، جاء في ظرف زمني قياسي، مما يدل على جدية الدولة في مواجهة تداعيات التغير المناخي، وحرصها على عدم تكرار سيناريوهات العجز التي كانت تُسجَّل في السنوات السابقة. كما أن اختيار تحلية مياه البحر كخيار استراتيجي، يؤكد وعي السلطات الجزائرية بالتحديات المستقبلية التي ستفرضها ندرة الموارد التقليدية، لاسيما مع الارتفاع المستمر لعدد السكان، وتزايد الطلب على الماء لأغراض صناعية وزراعية.
ولأن مشاريع الماء لا تنفصل عن التنمية، فإن ما تحقق حتى الآن من استقرار في التزود بهذه المادة الحيوية، سيسمح بإطلاق استثمارات جديدة في قطاعات الفلاحة والصناعة والسياحة، خاصة في الولايات الساحلية التي عانت في السابق من ندرة الماء رغم موقعها الجغرافي. كما سيمكن هذا الاستقرار من تحسين نوعية الحياة، وتوفير بيئة أكثر ملاءمة للعيش في المدن الكبرى التي شهدت توسعًا حضريًا سريعًا في السنوات الأخيرة.
واستطاعت الجزائر أن تُحوّل أحد أكثر التحديات تعقيدًا، إلى فرصة حقيقية لبناء نموذج مائي مستدام، يقوم على استشراف المخاطر واستغلال التكنولوجيا وتعبئة الطاقات الوطنية. وما تم تحقيقه حتى الآن، ليس إلا بداية لمسار أكبر يُراد له أن يؤمِّن المستقبل المائي للبلاد، ويُرسِّخ السيادة الوطنية على واحدة من أهم ثروات العصر.