تحوّلات اقتصادية كبرى خلال السّنوات الأخيرة

المحروقات..من ثورة التّأميم إلى ثّروة والتّنويع

إيمان كافي

 الرّاحـل بومدين أعــاد للجزائـــر خيراتهـا والرّئيــس تبون استعـــاد سيادتهـا

”قرّرنـــا”..السّيــــادة الاقتصاديـة من مجرّد مطلـب إلى واقـع ملمـوس

 اعتبرت الدكتورة ليلى بلقاسم أستاذة التاريخ بجامعة غليزان، أن منذ اكتشاف المحروقات في الجزائر سنة 1956، وتحديدا البترول في حاسي مسعود والغاز الطبيعي في حاسي الرمل، تمسّكت فرنسا بالجزائر أكثر من أي وقت مضى، فقد تحوّل واقع المحروقات إلى ركيزة أساسية في المشروع الاستعماري الاقتصادي التوسعي، خاصة في الصحراء الجزائرية التي أصبحت تنظر إليها كمركز استراتيجي حيوي.

 ذكرت بلقاسم أنّ هذا التمسك الفرنسي لم يكن مجرد رد فعل على تصاعد الثورة الجزائرية، بل جاء في سياق سعي فرنسا لتعويض ما خسرته في الحرب العالمية الثانية، سواء من حيث النفوذ الدولي أو الموارد الاقتصادية، ففرنسا الخارجة من الحرب منهكة، تبحث عن مصادر طاقة مستقرّة ورخيصة لإعادة بناء اقتصادها، ووجدت في الصحراء الجزائرية خزّانا طاقويا مثاليا لهذا الغرض.
وفي سنة 1957، أعلنت فرنسا تعيين وزير خاص بالصحراء، وأسّست مراكز عسكرية ومنشآت طاقوية محصنة في الجنوب، واستعانت بشركات أجنبية للتنقيب والاستغلال، في محاولة لتحويل الصحراء إلى قاعدة استراتيجية دائمة.
وخلال مفاوضات إيفيان الأولى، سعت فرنسا إلى فصل الصحراء عن الجزائر، والإبقاء عليها تحت سيادتها، باعتبارها آخر أمل لمشروع استعماري دائم، غير أنّ الوفد الجزائري رفض هذا الطرح بشكل قاطع، مؤكّدا أن وحدة التراب الوطني غير قابلة للتجزئة أو التفاوض.
لقد كان هدف الاستعمار الفرنسي إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للجزائر عبر الاقتصاد، انطلاقا من قناعة مفادها أن “من يملك الطاقة يملك القرار”، لكن الثورة التحريرية، بوعيها السياسي واستراتيجيتها الشاملة، أفشلت هذا المشروع، وأعادت رسم معادلة السيادة على الأرض والثروة معا، كما أشارت الدكتورة بلقاسم.
وأكّدت أنّ قطاع المحروقات في الجزائر ما بعد الاستقلال يعد أحد أعمدة السيادة الوطنية والركائز الأساسية للاقتصاد الوطني، فبعد عقود من الهيمنة الفرنسية على الثروات الباطنية، سعت الدولة الجزائرية الفتية إلى تفكيك النظام النفطي الاستعماري، واستعادة التحكم في مواردها الطبيعية.
في هذا السياق، تمّ في 31 ديسمبر 1963 تأسيس شركة سوناطراك، كأداة استراتيجية لترسيخ السيادة الاقتصادية، وتدريجيا بدأت الجزائر تبني نموذجا وطنيا مستقلا في إدارة قطاع الطاقة، وقد بلغت هذه الإرادة ذروتها في 24  فيفري 1971، حين أعلن الرئيس هواري بومدين عن تأميم المحروقات، في قرار تاريخي أعاد للجزائر سيادتها الكاملة على مواردها، وفرض شراكات إلزامية على الشركات الأجنبية، وهو قرار لم يكن مجرد خطوة اقتصادية، بل كان ضربة موجعة للمصالح الفرنسية، ونقطة تحول في مسار بناء الدولة الجزائرية المستقلة، التي اختارت أن تكون سيدة على أرضها وثرواتها.
وانطلاقا من هذا المسار السيادي، صدرت جملة من القوانين لتعزيز التحكم الوطني في قطاع المحروقات، وشهدت تلك المرحلة توسّعا ملحوظا في عمليات الاستكشاف والإنتاج، إلى جانب التوجه نحو إقامة بنية تحتية متكاملة تشمل شبكات الأنابيب، المصافي، والموانئ، مع التركيز على تكوين الكفاءات البشرية وتعزيز القدرات التقنية الوطنية بين سنتي 2005 و2024، حيث عرفت المنظومة القانونية إصلاحات متتالية تهدف إلى تشجيع الاستثمار الأجنبي دون المساس بالسيادة الوطنية، مع التركيز على نقل التكنولوجيا ومواجهة تحديات السوق العالمية.
وفي السياق، سردت الدكتورة ليلى بلقاسم تطور قطاع المحروقات، مشيرة إلى أنه تم إنشاء هيئات تنظيمية مثل الوكالة الوطنية لتثمين موارد المحروقات (ALNAFT) وسلطة ضبط المحروقات (ARH) لتأطير النشاط الطاقوي وضمان الشفافية والفعالية، كما وقّعت الجزائر شراكات استراتيجية مع دول كالصين، روسيا، إيطاليا، وقطر، في محاولة لتنويع التعاون وتفادي التبعية التقليدية لفرنسا. وفي كل مناسبة تحيي فيها الجزائر ذكرى تأميم المحروقات، تجدّد التزامها بمبدأ السيادة على الثروات الوطنية، وتؤكد استمرارها في الدفاع عن حقها في التحكم الكامل في مواردها الطبيعية.
وكشفت محدّثتنا أن خلال ثلاث وستين سنة من الاستقلال، تحوّلت السيادة الاقتصادية من مطلب سياسي إلى واقع ملموس، بفضل استرجاع الجزائر لثرواتها الطاقوية، فقد أصبحت سوناطراك عملاقا طاقويا إفريقيا، وركيزة أساسية في الاقتصاد الوطني، حيث تشكّل المحروقات اليوم نحو90 بالمائة من صادرات البلاد.
ولعقود، وفّر قطاع المحروقات العائدات الأساسية من العملة الصعبة، ومَوّل برامج التنمية، والبنية التحتية، والدعم الاجتماعي، كما ساهم في تعزيز الاحتياطات النقدية للدولة. هذا التمكّن مكّن الجزائر من لعب دور محوري ومؤثر في سوق الغاز والنفط العالمي، خاصة بصفتها عضوا فاعلا في منظمة أوبك، وشريكا استراتيجيا للعديد من الدول.
ومنذ استرجاع المحروقات سنة 1971، استطاعت الجزائر أن تكرّس سيادتها الوطنية الكاملة على مواردها، في خطوة تاريخية كانت ضرورية لبناء الدولة الوطنية المستقلة، وجعلت من قطاع الطاقة نقطة قوة سيادية محورية في معادلة النفوذ.
ومع كل ما تحقّق من إنجازات منذ تأميم المحروقات إلى يومنا هذا، يبقى التحدي الأكبر هو كسر التبعية الأحادية لقطاع الطاقة، من خلال تنويع الاقتصاد، وتطوير الطاقات المتجددة، وتحقيق حوكمة شفافة ومستدامة في تسيير الثروة الوطنية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19813

العدد 19813

الخميس 03 جويلية 2025
العدد 19812

العدد 19812

الأربعاء 02 جويلية 2025
العدد 19811

العدد 19811

الثلاثاء 01 جويلية 2025
العدد 19810

العدد 19810

الإثنين 30 جوان 2025